التعليم الرقمي مقابل التعلّم الشخصي في الشرق الأوسط
بقلم مجيد منيمنة، نائب الرئيس للتعليم العالي والشركات، بيرسون الشرق الأوسط
تركت جائحة كوفيد-19 آثارها على كل مرحلة من مراحل التعليم في الشرق الأوسط، بدءً من الحضانات إلى المرحلة الجامعية، حيث أثرت عمليات الإغلاق للحد من تفشي الوباء والقيود المفروضة على الحركة على تعليم ما يقارب 110 مليون طالب وطالبة من جميع المراحل العمرية في المنطقة. وفي ظل ذلك، ساهم اعتماد آلية التعلم أونلاين كمحفز للابتكار والرقمنة في أنظمة التعليم حول العالم في إتاحة عدد كبير من الفرص لتمكين طرق جديدة ومبتكرة للتعلم.
لم تخل عملية التكيف مع “الوضع الطبيعي الجديد” في التعليم من الصعوبات. ومع ذلك، شهدنا في الآونة الأخيرة قبولًا واسعًا واستيعابًا تدريجيًا لاستخدام منصات التعلم أونلاين والتعليم الهجين، وهو ما يمكن ملاحظته أيضًا في مبادرات الحكومات التي تدرك فوائد التعليم أونلاين وتفكر جدّيًا باعتماد التعليم الهجين أو التعليم المُدمج كخيار للتعلّم.
يهدف برنامج التحوّل الوطني، أحد الركائز الأساسية لرؤية المملكة 2030، إلى دعم مبادرات تدريب المعلّمين وتطوير قدراتهم، وتحسين بيئة التعلم لتحفيز الإبداع والابتكار، بما في ذلك تعزيز قيم الطلاب وصقل مهاراتهم الأساسية، وإثراء ثقافاتهم بما يلبّي متطلبات التنمية الوطنية ومتطلبات سوق العمل.
من منظور قطاع التعليم، يكشف استبيان بيرسون العالمي للمتعلمين 2020 الذي يُعتبر صوت ملايين المتعلمين في جميع أنحاء العالم، أنه لا عودة إلى عالم ما قبل كوفيد التعليمي. تظهر نتائج الاستبيان أن 88٪ من المتعلمين على مستوى العالم يرون أن التعلم أونلاين سيصبح جزء دائمًا من التعلم لجميع الفئات العمرية وسيؤدي إلى تعليم أكثر جودة وتجربة تعليمية أفضل في المستقبل.
بناءً على ذلك، يمكن لنا أن نقول إن التعلم الرقمي هنا ليبقى بالتأكيد. وفيما يلي بعض الاتجاهات البارزة التي تشير إلى ما تقوم به صناعة التعليم لتحويل تجربة التعلم في المستقبل القريب للطلبة والمعلّمين.
- التركيز على التحول الرقمي بدلاً من الرقمنة
من المدارس الابتدائية والثانوية إلى الكليات والجامعات، أدى الوباء إلى تسريع التحول الرقمي الذي كان قطاع التعليم في أمس الحاجة له. تم ذلك بوتيرة مختلفة وبطرق مختلفة بناءً على خبرة كل مدرسة بآلية التدريب والتعليم أونلاين.
ولتصميم نموذج تعليمي قوي للمستقبل، من الأهمية بمكان الاستفادة من التقنيات الرائدة مثل الذكاء الاصطناعي، لقدرته على تجاوز الحدود الجغرافية والزمانية لتحويل تجربة التعلم ومساعدة المتعلمين على تخصيص تعلّمهم وفقًا لاحتياجاتهم، وكذلك لقدرته على تقديم محتوى مخصص وغني قائم على الدروس المستندة إلى الجرافيكس، وبذلك تعزيز فرص نجاح الطلاب من خلال تحديد نقاط الضعف لديهم وتقديم الأساليب الفاعلة لتقويتها وتطوير قدراتهم ودمجها مع مهارات العمل المطلوبة للمستقبل. شنشهد في “الوضع الطبيعي الجديد” زيادة في اعتماد نماذج التدريب المُدمج مع مزيج من التجارب الرقمية والتجارب التعليمية أونلاين، بالإضافة إلى حلقات النقاش بإشراف معلمين متمكّنين.
يجدر التنويه هنا إلى أن هذا الاتجاه يختلف باختلاف الفئات العمرية، فبالنسبة لمعاهد التعليم العالي والجامعات، فإن الاتجاه هو الانتقال إلى التعلّم الافتراضي والتعلّم وجهًا لوجه بناءً على المادة والموضوع وحجم الفصل، إلا أنه المدارس تشهد اتجاهًا آخر. سيعود الطلبة في نهاية المطاف إلى الفصل الدراسي حيث سيتم استخدام النماذج الرقمية أو التعليم المُدمج لإثراء تجربتهم التعليمية. ومن ناحية أخرى، سلط الوباء الضوء على دور المدارس المهم في رعاية الطلبة، لا سيما أصغرهم سنًا، ممن يجدون تجربة التعلم الذاتي صعبة دون تدخل شخص بالغ يكون بمثابة “مدرب التعلم”. ومن ناحية أخرى، يُظهر طلبة التعليم العالي قبولًا أكبر بكثير للمنصات الرقمية مع تركيز متزايد لاكتساب المهارات الجديدة المطلوبة في بيئة العمل الحالية، كما يتطلع هؤلاء الطلبة لاكتساب مهارات عملية أخرى من تجربة التعلم وذلك عبر الدورات المهنية والدورات التدريبية، وغيرها.
- التعلم المصغّر سيصبح المعيار الجديد
لقد تسبب العصر الرقمي في انخفاض قدرتنا على التركيز وأدى كذلك إلى زيادة نسبة الإجهاد الذي يسببه التحديق الطويل في شاشات الكمبيوتر وما يترتب عليه من التنبيهات والإخطارات التي نتلقاها طوال اليوم. ونتيجة لذلك، أصبحنا غير قادرين ذهنيًا على التركيز على كميات كبيرة من المعلومات وتحليلها. وللتعامل مع هذا النوع من المشاكل في الفصل الدراسي، تكمن الإجابة في تبني آلية التعلّم المُصغّر، أو تعليم وشهادات النانو، والذي يتضمن تزويد الطلاب بالمعلومات بكميات أقل، على مدى فترة زمنية أقصر.
لقد ثبت أن التعلم على دفعات قصيرة يزيد من قدرة الأفراد على استيعاب المعلومات والاحتفاظ بها، فمن خلال تزويد المتعلمين بجرعات مُصغّرة المعلومات عبر مقاطع الفيديو التفاعلية والتطبيقات والبودكاست وما إلى ذلك، من المرجح أن تزيد إنتاجية المتعلّمين وقوة انتباههم، مما يساعدهم على التعلّم والاحتفاظ بالمعلومات التي اكتسبوها.
- الرغبة في تعلم مهارات القرن الحادي والعشرين والمهارات الوظيفية
فتحت التكنولوجيا الحديثة وآلية التعليم الرقمي عالماً جديداً من الفرص لتمكين التعلّم بطرق يسهل الوصول إليها وبتكلفة معقولة وبنتائج أفضل، لهذا فإن الاتجاه السائد هو تبني التعلم أونلاين باعتباره “مستقبل التعليم”. حاليًا، هناك اهتمام ملحوظ من الطلبة للاستفادة من المواد والبرامج والشهادات منخفضة التكلفة أونلاين.
لم تعد فكرة الاقتصاد المضطرب بسبب البطالة والإحلال التكنولوجي من الأمور التي نحسب لها حسابًا في المستقبل البعيد، بل هي هنا الآن. أدرك الناس أن الأدوار الوظيفية المستقبلية تواصل التغير بسرعة أكبر مما كانت عليه من قبل، كما أن تطور طرق العمل قد غيّر وجهات النظر حول ما يجب أن يتعلمه الأفراد وكيف يتعلمونه أيضًا.
وفقًا لنتائج استبيان المتعلّمين العالمي، أصبحت المهارات اللينة – مثل التفكير الإبداعي والتعاون وحل المشكلات المعقدة، والمهارات الوظيفية مثل التعاون الافتراضي واستخدام البيانات بشكل فعال – المهارات الأكثر أهمية لدى الكثيرين. يعتقد 87٪ أن التمكّن من اللغة الإنجليزية سيصبح بوابة مهمة لفرص العمل العالمية. يناشد الطلبة الجامعات بتوفير المزيد من برامج التعليم للكبار، والدورات القصيرة، والتدريب على المهارات الشخصية، وغيرها من الخيارات بأسعار معقولة. كما نشهد حاليًا اتجاهًا تصاعديًا كبيرًا في عدد الأشخاص الذين يتولّون مسؤولية توجيه تعلمهم. ومع ذلك، يتوقع الطلاب من الجامعات أن تعدّهم بشكل فعال وأن تدعمهم أثناء انتقالهم من التعلم إلى سوق العمل في مشهد التوظيف دائم التطور والتغير هذا.
وعلى الرغم من أن هناك اختلافات كبيرة بين التعلم أونلاين والتعلم في الفصول الدراسية، إلا أن استخدام كلتا الطريقتين ممكن لتحقيق نفس الأهداف على أيدي معلّمين يتمتعون بالتدريب المناسب، إذ تعتمد الطريقة المفضلة للتعلم والتدريس على أسلوب التدريب، بقدر ما تعتمد على الموضوع الذي يتم تدريسه.
وأخيرًا، لقد نجح الطلبة بتقبّل آلية التعلم أونلاين والتكيف معه عبر تعزيز مهاراتهم الرقمية والتوجه نحو التعليم العملي مثل التدريب المهني. كل هذا يقودنا إلى حقيقة أن التعلم قد تغير إلى الأبد وأننا بحاجة إلى إعادة تصوّر وتخطيط مستقبل التعليم بطريقة تجعله ذاتيًا وأكثر سهولة ومنصفًا للجميع.