إن ما يوجد أمامنا وما يوجد ورائنا هي أمور صغيرة مقارنة بما يوجد بداخلنا. عندما ننظر إلى الحياة ونؤمن بأننا نستطيع أن نمشي بالطريق التي رسمناها نجد أن الخيال سيتحقق شيئا فشيئا ولن يتحول فقط إلا حقيقة بل من الممكن أن يستمر ويصبح مثالا وتجربة ناجحة تبعث الأمل في قلوب الناس من جديد.. وهكذا كانت حياة من «بحث عن السعادة».
لكل إنسان قصة وحياة وأمل ولكن قصة كريس جاردنر تختلف عنا جميعا لأنها تحولت من قمة اليأس إلى قمة الأمل وبدت قصة تروى في المجالس وتصور لها الأفلام. كان كريس جاردنر رجل الأعمال المشهور في الولايات المتحدة الأمريكية والذي تقدر ثروته بملايين الدولارات رجلا عاديا يعيشُ مع صديقته التي أنجب منها إبنا اسمه «كريستوفر» وكان قد بلغ الخامسة من العمر فقط. قبل ذلك بسنوات، استثمر كريس كل ماله في أجهزة لفحص كثافة العظم، لكنها كانت «رفاهية غير ضرورية» كما كان يسميها، كونها تُقدم صورة أوضح بقليل فقط من الأشعة السينية، لكن بضعف الثمن. كانت تجارة كريس تسير من سيء إلى أسوأ كأنها تجري عكس التيار، فكانت متطلبات الحياة تزيد وحاجات كريس تكبر ولكن من دون أي مقابل يغطي مقدار ذرة مما يحتاج فمُطالبات صاحب الشقة التي كان يعيشُ فيها بالإيجار المتأخر، مخالفات السير المُتراكمة والضرائب غير المدفوعة … جميع هذه الظروف كانت محيقة بحياة كريس من كل جانب، وكفيلة بالتسبب بالكثير من الأحداث المؤسفة في حياته التي تأخذ به شيئا فشيئا إلى القاع. ازدادت الهموم والظروف الصعبة لدرجة أنها دفعت صديقته وأم ابنه إلى هجرهما والسفر إلى نيويورك، بقي كريس مع ابنه ذي السنوات الخمس يواجهان مصاعب الحياة ومأسيها بما فيها من تعب ومرار، لا أصدقاء ولا أهل يمكنهم المساعدة، اضطر مجبرا الرحيل عن المنزل بناءا على طلب صاحبه، لينتقل إلى العيش في منزل صغير وبسيط كان بالكاد يقدر الحصول على المال الكافي لدفع إيجاره البسيط.
وفي يوم من الأيام كان كريس يسير بجانب أحد الأبراج الشاهقة في سان فرانسيسكو، حين توقّفت سيارة فارهة بجانبه نزل منها شاب تبدو عليه ملامح السعادة، وقف كريس أمامه وقال له: «عندي سؤالان…الأول : كيف حصلت على هذه السيارة؟ والثاني: ماذا تفعل للحصول على هذا القدر من المال؟
« فما كان من ذلك الرجل إلا أن نظر إليه وأجابه: أنا أعمل كسمسار أسهم لدى هذه الشركة» وأشار بيديه إلى بناء خلفه كان لإحدى الشركات الكبرى في البلاد. تقوم الشركة بتوظيف 20 شخصا كل 6 أشهر في برنامج للتدرب، ينتهي باختيار شخص واحد فقط للعمل لديها، وطوال فترة التدريب تلك لا يحصل على أي مرتب!
هنا كريس أصرعلى أن يكون واحد من هؤلاء الـ 20 موظف ولكن كالعادة كانت جميع ظروف الحياة ضده، تم اعتقال كريس قبل المقابلة الخاصة للقبول في برنامج التدريب، بسبب مخالفات السير المتكررة ولم يُسمح له بالخروج حتى اليوم التالي عندما تم تأكيد الشيك الذي صرفه للشرطة. نصف ساعة فقط من الزمن كانت تفصله عن موعد المقابلة، كان يرتدي ثيابا بالية وسخه ولكن اندفاعه وإصراره وإيمانه بهذا العمل جعله يذهب إلى هناك راكضا، كان يبدو كالشحاذين في هذا المكان المليئ بالمرفهين، جاء دوره ليدخل على لجنة من كبار المدراء في تلك الشركة. كان موقفه صعبا جدا، نظراتهم مليئة بالتساؤلات والانتقادات، وصمتٌ غريب يسيطر عليهم ! بحث كريس في هذا الوقت عن فكرة لتبريرقدومه بهذا المظهر المذهل أمامهم، قصة تُظهر للجنة اهتمامه بروح الفريق مثلا، أو حبه لمساعدة المجتمع! لكنه تردّد قليلا وشرح لهم السبب الحقيقي لذلك. ومضت المقابلة بكل صعوبة، حتى سأله أحد المدراء قائلا: «ما رأيك لو أن رجلا دخل علينا بدون قميص إلى المقابلة وقمنا باختياره؟
« فصمت كريس قليلا ثم رد قائلا: «سأقول لا بد أن ذلك الشخص كان يلبس بنطالا رائعا!!!» فضحكوا جميعهم، حتى قاطعهم كريس قائلا: «سيدي، إن سألني أي منكم سؤالا لم أعرف إجابته، فسأقول لكم أنني لا أعرف الإجابة … لكنني أستطيع إيجاد الجواب، وسأقوم بإيجاد الجواب»!!!
تم قبول كريس في برنامج التدريب، وقد نظن أن هذه النقطة هي نقطة النهاية، لكن للأسف لم تنتهي المعاناة هنا. فالوظيفة كما قال له الرجل غير مدفوعة الراتب لمدة ستة أشهر وقد لا يتم اختياره بعد كل ذلك، إذ أن نسبة حصوله على الوظيفة لا تتعدى الـ 5% حيث يجب عليه تحصيل أكبر نسبة مبيعات بين المتدربين بالتالي لا بد من إكمال عمله في بيع أجهزة فحص كثافة العظام بعد العمل، باإضافة إلى رعاية إبنه.
في هذه الأشهر الستة، كان كريس يعمل منذ الصباح حتى الساعة الرابعة عصرا بشكل متواصل في مكالمة الزبائن المحتملين للحصول على شيء منهم، كان يقول: «لم أكن أضع السماعة بين المكالمة والأخرى لتوفير الوقت، وعلمت أنني أقوم بتوفير 12 دقيقة كل يوم بفعل ذلك. كما أنه لم يكن يشرب الماء أو أي شيء آخر حتى لا يضطر للذهاب إلى الحمام لتوفير الوقت. كنت يقوم بما يتطلب فعله خلال 9 ساعات في 6 ساعات فقط، حتى يستطيع المغادرة باكرا لأخذ ابنه من مركز الرعاية اليومية والانطلاق في محاولة بيع الأجهزة ثم العودة إلى المنزل ليقضي الليلة في الدراسة للامتحان المقرر في نهاية التدريب» لكن كريس لم يستطع بيع أي شيء مما عنده، وشيئا فشيئا بدأ يشعر بالإفلاس، وللأسف للمرة الثانية في إحدى الليالي عاد كريس وابنه منهكي القوى إلى غرفتهما ليجد أغراضهما في الخارج بسبب عدم دفعه للإيجار المستحق!!!
كانت ليلة مليئه بالتعب والصعوبة لم يكن كريس يعرف أين سيأخذ ابنه المسكين المنهك ويذهب!!! فقرر المشي للوصول إلى حيث تأخذه قدماه إلى أن وصل لمحطة مترو الأنفاق القريبة حيث جلسا على أحد الكراسي. كانت الحيرة تسيطر على أفكاره وابنه المسكين مستلق بجانبه. حتى بادره ابنه بسؤال عن الآلة التي كان يحتضنها والده: «هذه ليست آلة سفر عبر الزمن أليس كذلك؟» فاستغرب كريس السؤال، ورد ابنه: «سمعتُ ذلك الرجل المجنون اليوم يقول لك أن هذه آلة سفر عبر الزمن، وهي ليست كذلك!!!» فما كان من كريس إلا أن قال: «كلا يا بني، هي آلة سفر عبر الزمن، وإن لم تصدق، ما عليك إلى أن تضغط هذا الزر هنا!» وبعدما أقنعه بذلك، قرر الولد تجربة حظه. طلب كريس من ابنه إغماض عينيه عند ضغط الزر والتفكير في الزمن الذي يريد الرجوع إليه. ضغط الزر ثم طلب كريس من ابنه أن يفتح عينيه، لكن لم يتغير شيء المكان هو المكان والزمان هو الزمان! لكنه حول الموقف إلى لعبة وتهريج فتظاهر أنهم في العصر الجوراسي وأن الديناصورات تحيط بهم من كل جانب، وابنه البسيط تابع اللعب معه ظنا منه أنها فعلا لعبة، ولم يدرِ أن كريس كان يُحاول الدخول به إلى الحمام العام في تلك المحطة لإمضاء الليلة على أن ذلك الحمام هو الكهف الذي سيحميهم من الديناصورات. المنظر كان مؤلماً. منظر ذلك الأب الذي يحتضن ابنه النائم على أرض حمام عمومي، أما هنا فكان الأشد ألما هو محاولة أحدهم الدخول إلى الحمام، حيث وضع كريس قدمه معيقا الباب، وبدأ بالبكاء!!!!
استمر كريس في محاولة بيع الآلة، واستمر في برنامج التدريب للحصول على المبيعات قدر الإمكان، حيث أن هذه الوظيفة هي الأمل الوحيد المتبقي في الحياة، واستمر في البحث والمحاولات لإيجاد مكان يبيت فيه الليل مع ابنه، فكان يبيت في واحد من الأماكن المخصصة للمشردين!
وعند بداية كل صباح كان كريس ينظر إلى ابنه ويسأله: «هل أنت سعيد يا بني؟ لأنك إن لم تكن سعيدا فلن تحصل على شيء من الحياة»، أو يقول له: «إسمع يا بني، إياك أن تسمح لأي شخص كان أن يقول لك ما تفعل. إن كان عندك حلم، فعليك متابعة الحلم والعمل لتحقيقه بأي ثمن!»
ودارت الأيام مشت وتتابعت إلى أن اتى اليوم المنتظر، آخر يوم في برنامج التدريب حيث كان كعادته غارقا في مكالماته يحاول وبأسرع وقت الحصول على أكبر نسبة مبيعات. حتى جاء مديره وطلب إليه اللحاق به. وصل كريس إلى نفس الغرفة التي أجرى فيها مقابلة الحصول على التدريب قبل أشهر ستة، ليجد نفس اللجنة التي قامت بتوظيفه. وبعد حديث قصير عرف أنه الشخص المختار للوظيفة وأن اليوم التالي هو يومه الأول كموظف رسمي.
من هناك بدأ كريس طريقه نحو جني الملايين.