لا يجب أن تكون خبيرا من أجل تحقيق عوائد مُرضية للاستثمار ولكن إن لم تكن خبيرا، فعليك أن تدرك قيودك وتتبع مسار معين للعمل بشكل جيد، وإذا تم وعدك بأرباح سريعة، أجب بشكل سريع: لا».
هذا هو فكر وأسلوب وارن بافيت المستثمر و رجل الأعمال الأمريكي الذي يعد رابع أغنى أغنياء العالم الذي تقدر ثروته ب 52 مليار دولار أمريكي. وعلى الرغم من ثروته الهائلة، فإن بافيت معروف بحياته الهادئة الخالية من مظاهر البذخ والإسراف التي ميزت حياة غيره من الأثرياء. فعندما أنفق 9.7 مليون دولار من أموال شركة «بيركشاير» في عام 1989 على شراء طائرة خاصة أقدم على تسمية هذه الطائرة باسم «الطائر الذي لا يمكن الدفاع عنه» وذلك بسبب انتقاداته السابقة إلى مثل هذه المشتريات الباذخة من قبل مديري الشركات والأثرياء.
وما زال وارن بافيت يعيش في نفس المنزل الواقع في ولاية نبراسكا والذي اشتراه في عام 1958 مقابل 31500 دولار، رغم أنه كان يملك منزلا أعلى سعرا في ساحل لاغونا بيتش بولاية كاليفورنيا والذي باعه في عام 2004. ويقدر السعر الحالي للمنزل الذي يسكنه في أوماها بنحو لا يزيد عن 700 ألف دولار.
ويعد الراتب السنوي بافت الذي تقاضاه في عام 2006 والذي لم يزد عن 100 ألف دولار راتبا ضئيلا قياسا إلى رواتب ومكافآت المديرين التنفيذيين في شركات أخرى مماثلة لشركة “يوركشاير”. ففي عام 2003 على سبيل المثال بلغ متواسط راتب المدير التنفيذي في الشركات التي تشكل مؤشر «ستاندارد أند بوورز 500» لقياس أداء الأسهم نحو 9 ملايين دولار. غير أن بافيت ورغم حياته المتواضعة قد أدرجته مجلة «تايمز» في عام 2007 في قائمة أكثر 100 رجلا تأثيرا في العالم.
وقد اعتاد بافيت على قيادة سيارة «لينكولن تاون» مصنوعة في عام 2001 أقدم على بيعها عبر موقغ «إي باي» للمزايدات وتبرع بما جناه لصالح مؤسسة «غيرلز إنك» الخيرية التي تشغل إبنته منصب عضو في مجلس إدارتها. ومنذ أن باع تلك السيارة أصبح يقود الآن سيارة «كاديلاك دي تي إس».
في ديسمبر 2006 كتب عن بافيت بأنه لا يحمل جهاز هاتف نقالا وليس لديه جهاز كمبيوتر في مكتبه، وبأنه يقود سيارته بنفسه. غير أنه في مايو 2007، ذكر ريتشارد سانتولي، رئيس مجلس إدارة شركة «نيتجيتس» في تقرير نشرته صحيفة “نايتلي بيزنس” المتخصصة في الأعمال، بأن بافيت أصبح يستخدم الآن جهاز هاتف نقالا إلا أنه ما يزال بعيدا عن استخدام البريد الإلكتروني. وارن أدوارد بافيت، البالغ 77 عاما من العمر، ولد بافيت في 30 أغسطس 1930 في مدينة أوماها بولاية نبراسكا الذي كان والده يعمل سمسارا للأسهم قبل أن يكون عضوا في مجلس النواب الأمريكي، وقد أظهر وارين منذ طفولته موهبة كبيرة في فهم الأعمال والرياضيات. إذ كان قادرا وبسهولة على حل المعادلات الرياضية المعقدة برأسه ومن دون الاستعانة بالقلم والورق.
كما عرف عنه ولعه في قراءة الكتب حيث أظهر جوعا لا يشبع نحو المعرفة وخصوصا في مجال الأعمال وأسواق المال.
بدأ وارين العمل في مؤسسة السمسرة التابعة لوالده وهو بعمر لا يتجاوز الحادية عشر. ففي نفس عام بدايته بهذا العمل قام بأول عملية شراء للأسهم عندما اشترى أسهم شركة «سيتيز سيرفيسيز» مقابل 38.25 دولار للسهم الواحد. وقد قام بعد ذلك ببيع ما اشتراه من أسهم عندما ارتفع السعر إلى 40 دولارا وذلك قبل أن تواصل أسعار أسهم هذه الشركة الارتفاع لتبلغ 200 دولار بعد أعوام قليلة. ذلك علمه أهمية الاستثمار في الشركات الجيدة لفترة طويلة.
وبعمر لا يتجاوز الرابعة عشر، بدأ وارين مع زميل له في المدرسة الثانوية نصب مكائن تسلية في محلات الحلاقة لينفق الإيرادات التي حققها من هذا النشاط والتي بلغت 1200 دولار على شراء مزرعة مساحتها 40 إيكر قام بتأجيرها إلى مزارعين مستأجرين.
وعلى الرغم من تفوقه في الدراسة، إلا أنه شعر بأن الجامعة ستكون مضيعة لوقته وذلك في ظل نجاحه باعتباره مستثمرا مغامرا، أي مشاريعيا (entrepreneur). فأثناء دراسته الثانوية أصبح لديه مصادر للإيرادات تأتي من عدد من الصحف كان يديرها، ومن شركة «ويلسون كوين أوب» المصنعة لمكائن التسلية والتي أسسها مع صديق له، ومما يدفعه إليه المزارعون من إيجار مقابل استخدام وزراعة الأرض التي كان يملكها. ومع بلوغه سن السادسة عشر وتخرجه ضمن الطلبة العشرين الأوائل من المدرسة الثانية، كان لدى وارين توفير قيمته 5 آلاف دولار. غير أنه أذعن في نهاية المطاف إلى نصيحة والده وأقدم على دخول الجامعة.
في أعقاب تخرجه من كلية «وودرو ويلسون العليا» بجامعة واشنطن في عام 1947، انضم وارين إلى كلية «وارتون» الشهيرة والتابعة لجامعة بنسلفانيا حيث قضى فيها ثلاثة أعوام لينتقل بعدها إلى جامعة نبراسكا. وقد بدأ هناك اهتمامه في الاستثمار بعد أن قرأ كتاب «المستثمر الذكي» لمؤلفه بنجامين غراهام.
في عام 1951 حصل وارين على شهاد الماجستير في الاقتصاد من كلية كولومبيا للأعمال، حيث درس، تحت إشراف بنجامين غراهام، إلى جانب عدد من المستثمرين المهمين بضمنهم والتر سكولس وإيرفينغ كان.التأثير الآخر على فلسفة وارين بافيت الخاصة بالاستثمار جاء من مستمثر وكاتب شهير هو فيليب فيشر. فبعد أن تسلم درجة A+ من بنجامين غراهام وهي أعلى درجة يمنحها الأخير إلى أي طالب يدرس مادة تحليل أسواق الأسهم، أراد بافيت أن يعمل مع غراهم إلا أن طلبه جوبه بالرفض. ذلك دفع بوارين إلى العمل في مؤسسة والده كرجل مبيعات قبل أن يعرض عليه غراهام وظيفة في عام 1954. عاد بافيت إلى أوماها بعد عامين عندما تقاعد غراهام.
في عام 1956 قام بافيت بتأسيس شركة «بافيت أسوشييتس» المحدودة التي مثلت أول شراكة استثمارية له. تم تمويل هذه الشركة بنحو 100 دولار دفعها بافيت وشريكه وبنحو 105 ألف دولار دفعها شركاء محدودون يتألفون من أسرة وأصدقاء بافيت.
استطاع بافيت أن يؤسس شراكات إضافية تم جمعها فيما بعد تحت مظلة «بافيت بارتنرشيب» المحدودة. وقد قام بإدارة هذه الشراكه من غرفة نومه، ملتزما بشكل وثيق بنهج غراهام في مجال شراكة الاستثمار وثقافة التعويض. وقد حققت تلك الاستثمارات ما يزيد عن 30% من الإيرادات المجمعة خلال الفترة بين 1956 و 1969 في سوق كان معدل العائد الاعتيادي يتراوح بين 7% و 11%.
في عام 1962 بدأت “بافيت باراتنرشيب” بشراء أسهم شركة “بيركشاير هاثاواي”، وهي عبارة عن شركة صناعية كبيرة تعمل في قطاع المنسوجات الذي كان يشهد تدهورا ملموسا يتمثل في أن حجم مبيعات هذا القطاع كان يقل عن حجم رأس المال العامل فيه.
في عام 1969 عمد بافيت على حل جميع الشركات التي أقامها ليركز على إدارة «بيركشاير هاثاواي». وفي ذلك الوقت اعتقد تشارلي مونغر، نائب الرئيس الحالي للشركة بأن شراء الشركة أمر خاطئ بسبب الإخفاق الذي كان يواجهه قطاع المنسوجات. غير أن «بيركشاير» أصبحت واحدة من أكبر الشركات القابضة في العالم وتمثلت أحد أهم اهتمامات استراتيجية بافيت في شركات التأمين وذلك بفضل الاحتياطات النقدية الكبيرة التي كان على تلك الشركات أن تحتفظ بها في خزائنها من أجل تسديد مطالب التعويضات المستقبلية. وفي واقع الأمر أن شركات التأمين قد لا تملك تلك الاحتياطات النقدية إلا أنها قادرة على استثمارها والاحتفاظ بالعوائد التي يدرها الاستثمار.
وإن فلسفة بافيت الخاصة بالاستثمار في الأعمال ما هي إلا تحوير لنهج الاستثمار في القيمة والذي طوره أستاذه بنجامين غراهام. فقد أقدم غراهام على شراء شركات لأنها كانت رخيصة بالمقارنة مع قيمتها الجوهرية. إذ كان يعتقد بأنه طالما كانت السوق تضفي على الشركة التي يشتريها قيمة أقل من القيمة الجوهرية للشركة، فإنه يقوم بقرار استثماري مجدي عندما يقدم على شرائها. وبرر ذلك بالاعتقاد بأن السوق سوف تدرك فيما بعد بأنها قد منحت الشركة قيمة أقل من قيمتها الحقيقية مما يدفعها لأن تصحح هذه القيمة بصرف النظر عن طبيعة الأعمال التي تمارسها الشركة.
وفيما يلي عدد من الأسئلة التي يتعين الإجابة عليها قبل التوصل إلى قرار بشأن شراء الشركة، وذلك حسبما ورد في كاتب بافيت الذي يحمل عنوان «بافيتولوجوي»:
هل أن الشركة تقع في قطاع يتسم بقاعدة اقتصادية جيدة، وليس في قطاع يشهد منافسة على الأسعار؟
هل لدى الشركة احتكارا استهلاكيا أو علامة تجارية تتمتع بالولاء؟
هل بإمكان أي شركة تتمتع بوفرة في الموارد أن تتنافس بنجاح مع الشركة التي يجري التفكير بشرائها؟
هل أن إيرادات المالكين في اتجاه صعودي بأرباح جيدة ومستمرة؟
هل أن معدل الدين إلى الأصول منخفض أو أن معدل الإيرادات إلى الديون مرتفع؟
هل تستطيع الشركة تسديد ديونها في غضون سنوات عندما تكون الإيرادات أقل من المعدل؟
هل لدى الشركة عوائد مرتفعة ومستمرة على رأس المال المستثمر؟
هل تحتفظ الشركة بإيرادات تخصصها للنمو؟
هل تعيد الشركة استثمار إيراداتها في فرص أعمال جيدة؟
هل لدى الإدارة سجل جيد في تحقيق الأرباح من تلك الاستثمارات؟
هل تتمتع الشركة بالحرية على تعديل أسعار منتجاتها من أجل استيعاب التضخم؟
كما يركز بافيت على ترقب الشراء. فهو لا يريد الاستثمار في الأعمال التي تتسم بعدم القدرة على معرفة قيمتها. إذ يفضل الانتظار حتى حلول اتجاه التصحيح في السوق أو خلال الاتجاهات الهبوطية حتى يستطيع الشراء بأسعار معقولة، وخصوصا وأن الاتجاهات الهبوطية في أسواق الأسهم تتيح فرصا للشراء.
في يونيو 2006، أعلن بافيت عن عزمه على التبرع بنحو 10 ملايين سهم من أسهم الفئة ب في شركة «يوركشاير هاثاواي»، قدرت قيمتها في 23 يونيو 2006 بنحو 30.7 مليار دولار، إلى مؤسسة “بيل وميليندا جيتس” الخيرية، وهو أكبر تبرع خيري في التاريخ. ووانطوى هذا الإعلان على قرار يقضي بأن تتسلم المؤسسة المذكورة 5% من إجمالي التبرع على أساس سنوي في كل يوليو، اعتبارا من عام 2006. كما انطوى على انضمام بافيت إلى مجلس إدارة مؤسسة «جيتس الخيرية»، رغم أنه لا يعتزم لعب دور نشط في إدارة المؤسسة.
كما أعلن بافيت عن خطط تقضي بالمساهمة بأسهم إضافية من أسهم شركة «بيركشاير» تقترب قيمتها من 6.7 مليار دولار لمؤسسة «سوزان تومبسون بافيت» وغيرها من المؤسسات الخيرية التي يترأسها ثلاثة من أولاده.
وقد اعتبر توزيع تبرعاته بالشكل المذكور ذلك تحولا مهما عن البيانات التي أصدرها بافيت في السابق والتي أعلن فيها بأن الجزء الأكبر من ثروته ستذهب إلى مؤسسة «بافيت».
والمعروف بأن مجمل العقار الذي كانت تمتلكه زوجته والمقدرة قيمته بنحو 2.6 مليار دولار قد ذهب إلى تلك المؤسسة عندما توفيت في عام 2004.
وعلى ضوء تلك التبرعات السخية التي لا نظير لها فإن أولاد بافيت لن يورثوا جزءا كبيرا من ثروته. وهذه الأفعال صرح عنها بافيت في السابق وأعرب فيها عن معارضته تحويل ثروات كبيرة من جيل إلى آخر. فقد علق بافيت على هذه القضية في مرة من المرات بالقول «أريد أن أمنح أطفالي ما يكفي لكي يشعروا أن بإمكانهم أن يفعلوا أي شيء ولكن ما لا يكفي لكي يشعروا أن بإمكانهم ألا يفعلون شيئا».