“أمير مصر” و ” كيمو الأصلي” و” مبدع والت ديزني” كلها ألقاب تمتع بها الفنان التشكيلي العالمي هاني المصري، الذي يعد رائداً حقيقياً من رواد الفن خاصة الرسوم الكرتونية، وقامة فنية كبيرة آثرت مجالي الرسوم المتحركة والديكور المسرحي في مصر بالكثير، ليس هذا فقط بل كان فنانًا عالميًا، وهو أول مصري يعمل في استديوهات «والت ديزنى» مقدماً العديد من الأعمال القديرة والمميزة مع قامات الفن العالمي.
ولد المصري عام 1951 لوالدين يعملان بالتدريس، التحق بمدرسة الجزويت ولوحظ عليه عشق الرسم منذ نعومة أظفاره، حتى أنه ادعى يوماً اصابته بألم في فكه وطلب باكياً الخروج من المدرسة مبكراً للذهاب لطبيب أسنان يُنقذه من آلامه، فعل هذا فقط لكي يذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم “The jungle book” خمس مرات متتالية،وبالطبع كان مصير تلك المغامرة عقوبة كبيرة من والده لهروبه وتأخره حتي المساء، لكنها كانت مغامرة صغيرة تمهد لرحلة كبيرة للفتى الذي سيتحول عبر السنوات إلى رسام ومصمم كبير يكتب اسمه بريشة من ذهب في استديوهات “والت ديزني”.
بدا واضحًا أن هناك ما يجذب “المصري” إلى الرسم والألوان، لذا بعد تخطيه المرحلة الثانوية في دراسته، قرر الالتحاق بقسم الديكور بكلية فنون جميلة على غير رغبة أسرته التي فضلت أن يُكمل طريقه الدراسي بين أسوار كلية الهندسة، فعلَ المستحيل للوصول إلى وجهته حتى أنه لجأ إلى وزير التعليم العالي لأكثر من مرة حتى وافق الرجل على ضمه للكلية بقرار وزاري، وهناك وجد ضالته، شغفه بالرسم والتصميم والعمارة.. وصار الطريق من منزله الكائن بمصر الجديدة إلى الكلية بالزمالك متعة يومية.
بداية كيمو
بجانب دراسته؛ انهمك “المصري” في العمل بالمسرح حيث قدم عدد كبير من الديكورات على مسارح الجامعات المختلفة مع المخرج سمير العصفوري، الذي استعان به بعد شهور من تخرجه عام 1974، في مسرحية إيزيس” ليجد نفسه مسؤولاً عن عمل كبير تابع للمسرح القومي يتم عرضه في باريس بإمكانيات صغيرة، غير أنه تمكن من النجاح في الاختبار الأول ليستكمل مشواره في نفس المهنة بمسرحيات أخرى مثل “العيال كبرت” و”إنها حقًا عائلة محترمة” للفنان فؤاد المهندس، كما قام بتصميم “بوستر” مسرحية “شاهد مشفش حاجة” بطولة عادل إمام.
في أواخر السبعينيات، وبينما يعمل “المصري” داخل مرسم خاص بشركة دعاية، فوجئ بوصول مديره في العمل برفقة رجل مُسن، عَلم أنه أحد أفراد عائلة “جروبي”، يرغب في بيع ممتلكات العائلة قبل الرحيل عن مصر، وضرورة تغيير ماركة مصنع الآيس كريم لبيعه منفصلا عن باقي مصانع ومحلات الأسرة، اقترح الفنان العشريني – وقتها – ابتكار شخصية جديدة تتحول إلى ماركة جديدة للمصنع، تمت الموافقة على الفِكرة على أمل الوصول لشخصية فريدة ساحرة تجذب الأطفال إليها، غادروا المكان وتركوا “المصري” لتنفيذ المهمة الصعبة.
داخل مرسمُه، برفقة أقلامه وأوراقه، جلس “المصري” لساعات يحاول ابتكار الشخصية القادرة على دخول قلوب الأطفال بيسر، دار في خاطره استغلال حيوانات مختلفة، أرانب وقرود ودولفين، لكنه لم يرضَ عن أي نتيجة رغم المجهود المبذول في الرسومات، حتى تذكر هيئته وهو صغير حينما كان يعاني من السمنة ويتلقى تعليقات ساخرة من الأسرة على وزنه وتسميته بـ “الدبة الزرقاء” لأنه كثيراً ما كان يرتدي ملابس زرقاء، لحظتها اشتعلت الفكرة في رأسه، دبّ الحماس في يديه، وبدأ في رسم دبّ أزرق سمين، يشبهه تمامًا، وفي اليوم التالي كان يحمل أوراقه وشخصيته الجديدة، وفور الكشف عنها فوجئ بحماس الحضور وموافقة أسرة “جروبي” عليها وطلبهم بسرعة العمل على تصميم العبوات ومطبوعات مصنع الآيس كريم.
رحلة هوليوود
رغم الشهرة الجيدة التي حققها “المصري” في نطاق عمله خلال وقت قصير، إلا أنه قرر في منتصف الثمانينيات مغادرة مصر، والذهاب إلى أمريكا في رحلة من الشقاء وصلابة الإرادة والإيمان بالحلم، بعد وفاة أساتذته “صلاح جاهين” و”يوسف إدريس” و”شادي عبدالسلام” فضلاً عن واقعة جمع من ينتمون إلى الجماعات الإسلامية للنسخة الشعبية من ألف ليلة وليلة وحرقها في وسط ميدان الحسين، شعر لحظتها أنه لن يستطع العيش في مصر وسط اذلك المناخ السائد وقتذاك، روحه تحتاج إلى الفرار، عقله شغوف بتعلم شيء جديد، لم ينتظر كثيراً، قام باستخراج تصريح للسفر مع أسرته كسياحة إلى الولايات المتحدة، وهناك استكمل مشواره الطويل نحو العالمية.
عاش “المصري” لعدة سنوات في منزل صغير بمدينة نيوجيرسي برفقة أسرته، يعمل في شركات دعاية وتصميم غير معروفة أو مجلة العربي الصغير، يتقاضى أجرًا يكفيه بالكاد، لكنه لم ييأس أبدًا، كان لديه حُلم بالانضمام إلى كتيبة العمل داخل استديوهات “والت ديزني” لم يتخلَ عنه حتى في تلك اللحظات التي واجه فيها الرفض من قِبل الشركة بعد محاولات عديدة لتتقدم إلى وظائف في الشركة العملاقة، قبل أن يتمكن من تحقيق حلمه في مارس 1990 ويتم الموافقة على وجوده ضمن العاملين في “والت ديزني”.
ابداعاته في ديزني
في عام 1998 عمل “المصري” ضمن القائمين على فيلم “The Prince Of Egypt” من إنتاج المخرج الكبير ستيفن سبيلبيرج وبتكلفة إنتاج بلغت حينها 70 مليون دولار لكنه حقق أرباحًا فاقت الـ 218 مليون، ويحكي الفيلم قصة خروج اليهود من مصر، ولعب المصري دورًا كبيرًا في تطوير القصة وتدقيقها بصريًا وتاريخيًا، والتصدي لتخريب متعمد للشخصية المصرية خلال العمل، حيث طالبوه برسم حورس بأجنحه تشبه النسر النازي، وتصميم مسيرة العساكر المصرية أشبه بخطوات الإوز لكنه هدد بترك الشركة واللجوء إلى الصحافة لفضحهم فتراجعوا عن طلباتهم.
من بين إسهامات كثيرة، تكللت قصة نجاح واحد من أبناء مصر بإبداعه ففي نفس وقت عمله مع سبيلبيرج شارك الفنان الكبير في أعمال أخرى عالمية من ضمنها ” The Road To El Dorado ” و”spirit”. ، وكانت من أهم أعماله ” لوحة السيدة الأفريقية” و”مصر” و”المدينة الصينية” وأشهرهم لوحة “على” وينسب له تصميم بيت ميني حبيبة ميكي ماوس في منطقة “توون تاون” ديزني لاند ، ولم تقتصر أعماله الفنان الكبير على اللوحات فقط، بل تميز فى كتابة كتب الأطفال وحقق نجاحًا كبيرًا فى دول الغرب مثل كتاب “ألف ليلة وليلة” و”خلف الأبواب السرية” و”عروس الفرعون”.
العودة لمصر
منذ عدة سنوات وبالتحديد في 2005 قرر الرسام والمصمم العالمي العودة إلى مصر من جديد، في محاولة منه لتمرير خبراته وإفادته بلاده بكل ما تعلمه في سنوات الغربة، سعى من أجل إنشاء أول استديو للرسوم المتحركة في مصر على نمط والت ديزني وأعد دراسة جدوي مستفيضة وشاملة للمشروع الكبير، لكنه لم يتوفق في إيجاد ممول يؤمن بفكرته خاصة كون المشروع لن يؤتي ثماره قبل خمس سنوات من بدأه وهذا وقت كبير لم يستسيغه أو يقدره رجال الأعمال، ورغم اشادتهم بالمشروع وعوائده الإ أنهم جميعاً رغبوا في مدة أقل لا تتعدى سنة او اثنتان لجني الأرباح.
قام المصري بتصميم لوحة جدارية (خيامية) عن قصة ألف ليلة وليلة، ارتفاعها 5 أمتار وطولها 8، تحوي آلاف القطع من القماش، وأكثر من 100 لون، عرضت لأكثر من مرة في أماكن ثقافية منها داخل قصر الأمير طاز الذي يعتبره “المصري” أفضل الأيام التي ظهرت فيها اللوحة.
كان الفنان الكبير من أهم المهتمين بدعم التراث وأول من تحدث عن القطع الأثرية المختفية بالمتحف الإسلامي، وكان من المناصرين للتراث ولا يفوت فرصة إلا ويتحدث فيها عن سرقات التراث والآثار ويعود له الفضل في فتح ملف القطع الأثرية المهربة بمتاحف ومزادات عالمية، وعلى الرغم من أنه بعد عودته لم يحصل على المكانة التي كان ينبغي أن يحصل عليها في بلاده، كما اغفلت الدولة المصرية الاستفادة من خبراته العظيمة، ظل المصري وفياً لبلده دائماً مدافعاً عن مصر من خلال الأعمال التي قدمها محاولًا تقديم صورة جيدة لمصر والمصريين عن طريق الفن.
رحيل أليم
اعتاد تلاميذ ومحبي الفنان الكبير على طلته اليومية من خلال صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، يتحدث عن مسيرته تارة، ويطرح نقاش حول قضية ثقافية تارة أخرى، ينشر صورًا مع فنانين عالميين؛ التقى بهم خلال رحلته في هوليود، ومؤخرًا إعلانه عن إصابته بمرض سرطان الدم ” اللوكيميا” في مارس الماضي، ومنذ ذلك الوقت أصبح يكتب يومياته مع المرض اللعين، انتصاره أحياناً، وهزيمته في أوقات ثانية.
وأخيراً تعرض المصري لانتكاسة صحية قوية، قبل أن يكتب لمحبيه منذ أيام عن وصوله لمرحلة حرجة مع الأمراض التي يعاني منها ورغبته في حالة وفاته بالابتعاد عن الحزن “أرجوكم متحزنوش.. وافتكروا فيا مع الضحكات والمناقشات والأفكار اللي حاتخدموا بيها حبيبتنا كلنا مصر الوطن”، ليفاجئ عشاقه بخبر وفاته يوم 24 أغسطس الماضي عن عمر يناهز الـ 64 عاماً، صفحة “أمير مصر” الشخصية التي اعتاد دائماً أن يضع فيها لمسات فنية وألبومات، امتلأت بالحزن لرحيله، فقد مات “المحارب المصري” كما يحلو للجميع مناداته تاركاً سيرة عطرة وتاريخ مشرف ومحبة لا تنتهي.
كوادر:
•هاني المصري أول فنان مصري يعمل في « والت ديزنى»، وقامة فنية كبيرة أثرت الرسوم المتحركة والديكور المسرحي في مصر بالكثير
•أثناء دراسته بكلية الفنون الجميلة قدم عدد كبير من الديكورات على مسارح الجامعات المختلفة مع المخرج سمير العصفوري
•حقق حلمه بالانضمام لفريق عمل ديزني عام 1990، وعمل ضمن القائمين على فيلم “The Prince Of Egypt” 1998 للمخرج ستيفن سبيلبيرج وشارك أفلام عديدة عالمية
•يعتبر من أهم المهتمين بدعم التراث والأثار المصرية، ويعود له الفضل في فتح ملف القطع الأثرية المهربة بمتاحف ومزادات عالمية