“في الغالب يتم الافتراض بأن الاقتصاد المبني على المؤسسات الخاصة (الرأسمالي) لديه انحياز طبيعي للابتكار، ولكن هذا ليس صحيحاً. إن هذا الاقتصاد لديه فقط انحياز لتحقيق الربح”.
اريك هوبسباوم
كتب غسان ديبة وحسن شقراني
بتحدث البعض أن أزمة الاقتصاد في لبنان هي مسألة عابرة أو دورية، وقد يعترف بعض المتمولين اللبنانيين والمدافعين عنهم من الاقتصاديين من جميع الألوان تحت الضغط ببعض أخطاء النموذج الاقتصادي اللبناني الذي بني بعد الحرب فيما يخص مجالات عديدة منه مثل ارتفاع الفوائد أو الاستدانة العامة.
يعتبر الكثيرين أن للبنان خاصية فريدة ناجحة وتعتبر اللازمة الأساسية للبنان منذ الاستقلال حتى الآن، «المبادرة الفردية» التي رفعت إلى مستوى القداسة وربطت نفسها مع وجود لبنان ككيان. ومن أجل ضمان هذا الترابط وضع في مقدمة الدستور أن «النظام الاقتصادي الحر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة» حتى لا يجرؤ أحد حتى على مجرد التفكير بشكل آخر من التحفيز الاقتصادي. وتعتبر هذه الخاصية الملاذ الأخير للاقتصاد اللبناني، فإن هي بخير فالاقتصاد بخير. لكن «المبادرة الفردية» هي ليست الأساس في هذا الاقتصاد ولا في الاستحواذ على الثروة فيه، بل أكثر من ذلك فإنها بدأت تأخذ أشكالاً تدميرية تؤدي إلى تعميق أزمة الاقتصاد اللبناني.
الثروات الشخصية 91 مليار دولار
يقدّر تقرير صدر ل” كريدي سويس” عن الثروات الشخصية في لبنان بأكثر من 91 مليار دولار، وهي كانت قد بلغت ذروتها في عام 2010 عندما بلغت نحو 99.6 مليار دولار. ويقول أن 0.3% من اللبنانيين يمتلكون نصف هذه الثروات تقريبا. وبالاستناد إلى آخر إحصاءات صادرة عن مصرف لبنان في شأن تركّز الودائع، يتبيّن ان 0.8% من الحسابات المصرفية يوجد فيها نحو نصف الودائع. ومع افتراض أن النسبة لم تتغيّر طيلة العقد الماضي، وهذا غير صحيح إطلاقا، يمكن القول أن نحو 75 مليار دولار من الودائع مودعة لدى عدد قليل جداً من الحسابات.
من جهة أخرى ترصد قوائم الأغنياء السنوية، أن لبنان يضم فقط 13 مليارديراً بثروة تقدر ب33 مليار دولار، بحسب قائمة فوربس السنوية، يمتلك الأثرياء اللبنانيون الـ11 نحو 33.78 مليار دولار، أي ما يوازي 75% من مجمل الناتج المحلي اللبناني، وبمعدّل يزيد على 3 مليارات دولار لكل من المرصودين على القائمة، أي ما يوازي متوسط الأجر السنوي لنحو 260 ألف موظف وعامل في القطاعات النظامية.
تشير “فوربس” في تقريرها الأخير إلى أن لبنان يحتل المرتبة الثانية بعد السعودية على قائمة الأثرياء العرب، إذ جاء جوزيف صفرا في المرتبة الثانية بعد الوليد بن طلال بثروة قدرها 17.3 مليار دولار، يليه في المرتبة الـ11 على الصعيد العربي كل من نجيب ميقاتي وشقيقه طه بثروة 3.3 مليارات دولار لكل منهما، ثم بهاء الحريري بثروة قدرت بـ2.3 مليار دولار. وشهدت القائمة في هذا العام دخول 3 أسماء لبنانية جديدة؛ روبير معوض وعائلته بـ 1.5 مليار دولار، وجاك سعادة بـ1.2 مليار دولار، وراي إيراني بـ1 مليار دولار.
السؤال الأساسي هو: هل المبادرة الفردية تؤدي إلى الابتكار والتقدم التكنولوجي في النظام الرأسمالي الحديث؟ يقول الاقتصادي في جامعة كامبريدج ها جون تشانغان، إن المبادر ــ البطل الذي تكلم عنه الاقتصادي النمسوي جوزيف شومبيتر انتهى ولم يعد له مكان في الرأسمالية. الآن النظم الكبيرة والجماعية (collective) هي المحرك الرئيسي لخلق التكنولوجيا وتطبيقها. ودور الدولة هنا أساسي في هذه العملية. وقد تراجع دور المبادرين الذين يمكن قياسهم بعدد العاملين لحسابهم في الاقتصادات المتقدمة الى ما دون 10% من القوى العاملة، أما في الدول النامية فيطغى دور المبادرين، إذ يصلون إلى ما بين 30 – 50% من القوى العاملة. وكلما تخلف الاقتصاد، زاد العاملون لحسابهم أو «المبادرون» وليس العكس كما يعتقد أصحاب نظرية المبادر ــ البطل. فمثلاً، في دولة بينين في أفريقيا الغربية، يصل عدد العاملين لحسابهم إلى أكثر من 80%. في لبنان، يحصل الشيء نفسه، إذ بيّن تقرير «مايلز» للبنك الدولي الصادر عام 2012 أن نسبة العاملين لحسابهم تبلغ 36%، بالإضافة إلى 19% من العاملين غير النظاميين. ويؤدي هذا الانخفاض إلى تراجع مستوى المعيشة لأكثرية اللبنانيين، إذ إن الترابط بين الاثنين سببي بامتياز. فكما قال آلان غرينسبان «إن مستوى الإنتاجية في نهاية المطاف يحدد معدل مستوى المعيشة”.
يقول الاقتصادي الأميركي الشهير لستر ثورو في كتابه «مستقبل الرأسمالية»، الذي نشر في 1996 في أوج صعود نجم الرأسمالية بعد انتهاء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وقبل أزمة 2008، في معرض تناوله لدور التكنولوجيا وسبل خلقها في الرأسمالية، إن الرأسمالية ليس لديها ميكانيزم أوتوماتيكي للقيام بالاستثمارات والبحوث والتطوير الضرورية للتقدم التكنولوجي. فـ»القيم الرأسمالية هي في حرب مع الرأسمالية نفسها»، ويضيف متسائلاً، ومستلهماً من تجربة الإسبان في إهمال نظم الري التي بناها المسلمون في الأندلس: «هل الرأسمالية ستستثمر بالرأسمال البشري والبنى التحتية والبحوث والتطوير التي ستسمح لها بالازدهار، أم ستكون كالإسبان المسيحيين، غنية على المدى القصير من دون القيام بالاستثمارات الاجتماعية التي ستضمن نجاحها في النهاية؟». وكأن ثورو يتكلم عن لبنان اليوم الذي يستشري فيه مبدأ الربح السريع والاغتناء السريع وتراكم الثروة المالية والعقارية وتمركز رأس المال في قطاعات غير منتجة من دون الاهتمام بالاستثمار الطويل الأمد، لا الرأسمالي الثابت البحت ولا الاستثمار الاجتماعي. فالعقلية السائدة هي أنه ما دامت القلة الريعية وفي مقدمها المصارف والعقار بخير، فإن لبنان في أحسن أحواله، وفي الوقت نفسه تهترئ البنى التحتية وتغيب البحوث والتطوير، فيتحول إلى موارد مبددة بالهجرة وتستبدل المهارات بالأموال الوافدة من المهاجرين التي تزيد من ريعية الاقتصاد، ما يخلق حلقة مفرغة تستنفد فيها القوى المنتجة في الاقتصاد.
إن المبادرة الفردية في لبنان تستعمل كغطاء لحقيقة أن القطاعات الأساسية في الاقتصاد هي احتكارية حيث يتمركز رأس المال وبالتالي يتعذر على المبادرين الفرديين الدخول إليها والمنافسة. فالمبادرة الفردية تترك للمجالات الصغيرة حيث يتم الهدر للرأسمال وينتج مؤسسات منخفضة الإنتاجية، وفي أكثر الأحيان يجري تناسخ غير صحي لهذه المبادرات وغيرها بحيث تؤدي إلى ارتفاع نسبة الإفلاسات، وبالتالي تحول المبادرة الفردية إلى مبادرة غير إنتاجية أو حتى تدميرية للرأسمال والطاقات البشرية. بسبب كل هذا، يفتقد لبنان للوعاء العام والجماعي للتقدم الاقتصادي وخلق وتطبيق التكنولوجيا من أجل تحقيق اقتصاد ديناميكي يربط الاقتصاد بالكمّ الهائل من الرأسمال البشري الموجود والمتزايد سنوياً، وبذلك يكون لبنان أكثر دولة في العالم تهدر طاقاتها العلمية الكامنة.
إن اللبنانيين «مبادرون فرديون»، وأهم مبادرة فردية الآن منتشرة بشكل هستيري هي البحث عن الهجرة، تليها المبادرات لفتح مطاعم وحانات ومحلات البيع الصغيرة الحجم والتصليح والخدمات الوسيطة، بالإضافة إلى المبادرة للانضمام إلى شلل الاحياء المسيرة من الزعامات الطائفية. وحتى الفرد الذي كان سيحقق الكثير جردوه من إنسانيته وقوة ابتكاره ليهاجر للخارج من أجل العيش الكريم ويبقى في الداخل فقط من أجل العيش، وذلك في أكبر جريمة ترتكب بحق رفاه الأجيال الحالية والقادمة. وجاءت أزمة النفايات الأخيرة لتوضح إلى أي مدى استهتار الرأسمال اللبناني بوطنه، وكيف أن نظام التحاصص والفساد السياسي يقود إلى الفشل.
كوادر:
– المبادرة الفردية في لبنان تستعمل كغطاء لحقيقة أن القطاعات الأساسية في الاقتصاد هي احتكارية حيث يتمركز رأس المال وبالتالي يتعذر على المبادرين الفرديين الدخول إليها والمنافسة
– العقلية السائدة هي أنه ما دامت القلة الغنية وفي مقدمها المصارف والعقار بخير، فإن لبنان في أحسن أحواله، وفي الوقت نفسه تهترئ البنى التحتية ويظلم المواطن ويغيب البحث والتطوير
– تراجع دور المبادرين الذين يمكن قياسهم بعدد العاملين لحسابهم في الاقتصادات المتقدمة الى ما دون 10% من القوى العاملة، أما في الدول النامية فيطغى دور المبادرين، إذ يصلون إلى ما بين 30 – 50% من القوى العاملة