بيروت – عبدالرحمن جاسم
بعد غياب ثماني سنوات انشغل خلالها بتأسيس الفرق، وإطلاق شركة إنتاج وجمعية تحتضن الأغنية العربية البديلة، يعود الفنان الفلسطيني بألبومه الثالث «ثلث». عمل مختلف عن المعتاد تعرّف عليه أهالي بيروت في أمسية احتضنها “مترو المدينة”.
يعود تامر أبو غزالة إلى الساحة عبر ألبومه الشخصي الثالث «ثلث». الفنان الفلسطيني الشاب (مواليد عام 1986 لأسرةٍ فلسطينية في القاهرة) وخريج «المعهد الوطني للموسيقى» في رام الله («معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى» حالياً) نشط خلال الأعوام الماضية على صناعة تجربته الموسيقية «المنهجية”.
أطلق جمعية موسيقية مستقلة أسماها «إيقاع» بهدف احتضان المشاريع الموسيقية العربية البديلة، وكذلك شركة «مستقل» (التابعة لها)، ثم وكالة ترخيص موسيقية أسماها «أوياف»، وبالتأكيد مجلة النقد الموسيقي «معازف». كل هذه الأعمال أسهمت في تأخير إطلاق ألبومه الشخصي.
ألبومه الأوّل «جناين الغنا» (2001) كان عبارةً عن تجميعاتٍ لأغنيات أداها بين سن الخامسة والـ 15، وهو يختلف للغاية عن ألبومه الثاني «مرآه» الذي صنعه بعد الأوّل بخمس سنوات (2006)، لكنّه طرحه في الأسواق بعد سنتين (2008). هنا، قدّم تجربة مغايرة كلياً، إذ كُتِبَ الألبوم أثناء الانتفاضة الثانية، وكانت الأغنيات تلحّن أثناء حظر التجوال الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني على المدينة الفلسطينية. انعكس كل ذلك على الألبوم ليصوّر الحياة الاستثنائية في فلسطين إبان تلك الحقبة الزمنية. أشرف الفنان والموسيقي الفلسطيني المعروف خالد جبران على مشروع تامر أبوغزالة. تلك العلاقة دفعت أبو غزالة للمشاركة في ألبوم جبران «مزامير» (2005) كعازف عود. أسس تامر العديد من الفرق الموسيقية مثل «الألف» مع موريس لوقا وخيام اللامي (2012)، وهو كان قد تعاون سابقاً، مع زيد حمدان، ومحمود الدرايدة، ودنيا مسعود في إنشاء المجموعة العابرة للأنماط «كزا مدى» (2010)، وفي «ثنائي بزق» مع ربيع جابر، و«كلام مزيكا» مع سلام يسري. وبالتأكيد، لا يمكننا أن ننسى أنه أنتج «مش بغنّي» أول ألبومات الفنانة المصرية مريم صالح.
أما عن ألبومه الحالي «ثلث»، فيشير أبو غزالة لـ جريدة «الأخبار» اللبنانية إلى أنّه «ثلث اصداراتي حتى الآن بعد «جناين الغنا» و«مرآه»، ويشمل تسع أغنيات لحنتها على ثلاث مراحل حياتية، كل مرحلة تنعكس في ثلاث أغنيات. المرحلة الأولى زمنياً تتكون من أغنيات «نملة»، و«حب»، و«تخبط»، ثم «علامة» و«الغريب» و«فجر البيد»، ثم «خبر عاجل» و«حلم» و«البلاغات». لم أكن أقصد أن تتثلث الأمور في هذا الاصدار، ولكن هذا ما آلت إليه». وعن اللغة الموسيقية أو الكلامية المستخدمة في الألبوم، فيشير الملحن والمغني الشاب: «أعتقد أن «ثلث» من التجارب غير اللغوية، ربما تكون حسية، تجتمع فيها الموسيقى واللغة ونبرات الصوت والديناميكية وخلفيتي في الأنماط الموسيقية وما سمعته في حياتي وغيرها الكثير من العناصر، لتعكسني كما كنتُ في مراحل تكوينها». يتعاون أبو غزالة في الألبوم (يغني ويعزف على العود فيه) مع خيام اللامي على الدرامز، وشادي الحسيني على البيانو، ومحمود والي على الباص، وخالد ياسين على الإيقاع، فضلاً عن استخدام الميلوديكا، والبيانو الكهربائي، والبزق، والأورغن، والسنثسايزر، إضافة إلى الغناء المصاحِب والموسيقى الإلكترونية.
تفتتح الألبوم أغنية «فجر البيد» التي تبدأ بهجومٍ وتري مباشر، لا تضيّع الوقت. يأتي الكلام بالفصحى كقصيدة وإن كان قليلاً. حتى الدقيقة 1:34، يبدو كل شيء تحضيراً للدخول في «اللوثة» الموسيقية التي تريد الأغنية إيصالها، حيث نلاحظ دخولاً للآلات الموسيقية المختلفة مما يخلق مزيجاً مختلفاً من الضجة الموسيقية. الأغنية التي يصفها تامر بكلماته بـ «الصحراء الصوتية من حيث العرض والعمق والارتفاع» تبدو أشبه بذلك من خلال تلاعبها الكبير بالصوت كما بالموسيقى.
«الأفكار الكثيرة المتواصلة والمقطعة التي تضج بالرأس في الوقت عينه»، هكذا هي «نملة» الأغنية الثانية في الألبوم بحسب أبوغزالة. تختلف «نملة» اختلافاً جذرياً عن سواها. هنا، يسبق الكلام الصوت. تذكّر التجربة إلى حدٍّ ما بأعمال فرقة «صابرين» الفلسطينية (خصوصاً في ألبومها الأوّل «دخان البراكين» عام 1984) في وقتٍ معيّن، وكذلك بأعمال الشيخ إمام (خصوصاً لحرفة استعمال العود في لحظةٍ ما)، حتى إن الموسيقى تأخذ بعداً (1:33) مختلفاً يشبه موسيقى الزار المصرية. أما «الغريب»، فهي مزيجٌ من ألحانٍ متقاربة. يظهر بيانو في الخلفية، والكلام الذي قد لا يبدو واضحاً للوهلة الأولى يعود ليتضح شيئاً فشيئاً. تجربة أبوغزالة هنا أقرب إلى التجريب الموسيقي، كذلك في الدقيقة 1:40 نجده يسخّر الموسيقى ويخفّف سرعتها ربما لإعطاء سامعيه فرصة اللحاق بتجربته وما يريد قوله، وهو أمرٌ قابلٌ للنقاش هنا. يعود بعد ذلك لترك الموسيقى تتحدث مع خلفية صوتية خفيفة من الدقيقة 2:25 وحتى 2:40. يغوص أبوغزالة بشدة في التجريب في هذه الأغنية.
في «الحب»، هناك «تضاد الغضب والحنان» كما يقول أبوغزالة. الموسيقى تبدو ممزوجة بدقة مع الكلمات. حتى إنه في لحظةٍ ما، نجد صوت أبوغزالة وحيداً من دون موسيقى نهائياً. يمكن ملاحظة أنّ الموسيقى تأخذ بعداً جديداً مع الاقتراب من الدقيقة الثانية، فنجدها أكثر مباشرةً.
أما أغنية «علامة» التي يصفها الفنان الفلسطيني بـ «أنّها الحنين الانساني لكل شيء، في أي مكان وأي وقت»، فتظهر اللهجة الفلسطينية بوضوح في الكلام المنتقى بعناية. تبدو الموسيقى «جمهرةً» من الآلات المتجمّعة لتقول فكرة واحدة. وفي «علامة»، يمكن ملاحظة أن الإداء يبدو شديد التأثّر إلى درجة كبيرة، وربما هي من أكثر الأغنيات «حميمية».
في «عبث»، نجد اللهجة الفلسطينية تحكي عن «كل الجوعانين من تشيلي للصين». الأغنية التي يصفها أبو غزالة بأنّها «العبث الفلسطيني»، ترسم تصوراً يريده صاحبها بعيداً عن المعتاد سواء لناحية الموسيقى أو الكلام. إنها حكاية السياسة هذه المرّة وكيف تؤثّر على الحياة اليومية المعاشة، حتى الموسيقى تأتي ضاجةً لتكمل الصورة بحد ذاتها. الغناء هنا يتشابه مع أسلوب الشيخ إمام، ويقارب تجربةً خاصة بالتأكيد.
أما «حلم»، فكانت محاولة صانع الألبوم لتقديم شيء مختلف. الموسيقى تشبه تلك الموجودة في Sweet dreams لمارلين مانسون (خصوصاً البداية)، نجد الوتريات تحاول إيصال رسالة ما، الكلام يكمل الصورة. هناك مزجٌ بين الهدوء الشديد في الأغنية والكلام الصاخب والموسيقى التي ترتفع لتهدأ فجأة.