في الانقلابات سابقاً كانت الدبابات هي السلاح الأمثل لصنع السياسات. أما هذه المرة فكان السلاح، هو المصارف”. يانيس فاروفاكيس
كتب -غسان ديب
بعد الأزمة العالمية في 2008 كتب جون كويغين كتاباً سمّاه “اقتصاد الزومبي” يفند فيه ما يمكن اعتباره المسلمات الاقتصادية النيوليبرالية حول كفاءة الأسواق المالية واستقرار الاقتصاد الرأسمالي. شبّه هذه الأفكار، التي عدّها ميتة ولكنها لا تزال تسيطر على عقول أكثرية الاقتصاديين والسياسات الاقتصادية، بأنها كالزومبي لا حية ولا ميتة.
اليوم بعد سنوات عدة من الأزمة والإصرار على تطبيق هذه السياسات، أصبحنا أمام واقع أن هناك بلدا بكامله أصبح لا حيا ولا ميتا، أُخذ رهينة من خلال أسوأ أنواع التسلط الخارجي منذ زمن الاستعمار، إذ شبّه البعض وضع اليونان بوضع الدول التابعة للإمبراطوريات القديمة كالصين والعثمانيين (vassal state) في فترة ما قبل الدولة الحديثة.
ما لا شك فيه أن اليكسيس تسيبراس وحكومته كانا يواجهان أكبر معضلة اقتصادية واجهت حكومة في التاريخ الحديث ربما، فهو يحكم بلداً صغيراً مدينا بـ180% من دخله، الذي بات بدوره اقل بـ25% مما كان عليه في 2010، وواحد من كل اثنين من شبابه بلا عمل، و40% من متقاعديه تحت خط الفقر، واقتصاده مهدد بانهيار كامل نتيجة أزمة سيولة نقدية في مصارفه، إذ كانت ستنفد خلال أيام ما سيؤدي إلى انخفاض كبير في التبادل للاقتصادي والواردات وأزمة إنسانية كبرى.
بمواجهة ذلك وقف النظام الأوروبي، ومعه صندوق النقد الدولي، بكل تعنت وتجبر، رافضاً أي حلول في التفاوض القائم مع اليونان منذ 2010 تحت مظلة الخطط الانقاذية، ما عدا الاستسلام او الطرد من منطقة اليورو. اختار تسيبراس الاستسلام بمذلة ورمى في سلة المهملات التفويض الذي اعطاه إياه الشعب اليوناني في الاستفتاء في 5 تموز وفي الانتخابات العامة قبل ذلك في يناير الماضي.
هل كان هناك خيار آخر؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه البعض. ببساطة، أمام التعنت الأوروبي، الرافض لرفع التقشف عن كاهل الشعب اليوناني، كان على تسيبراس، كما دعاه الكثيرون، الخروج من طاولة المفاوضات وإنهاء عضوية بلده في اليورو.
الدراخما كان أفضل
الحل يكمن بالخروج من اليورو واعتماد الدراخما مرة أخرى، فهذا الانتماء لم يجلب للشعب اليوناني إلا الخراب الاقتصادي. والآن، بسبب موقف تسيبراس، جلب التبعية السياسية والإذلال الوطني.
اقتصاديا إذا قارنا السنوات الخمس عشرة قبل الانضمام إلى اليورو مع السنوات الخمس عشرة من بعده يمكن رؤية مدى التأثير السلبي لليورو. ففي المرحلة الأولى زاد الناتج المحلي للفرد ثلاث مرات من نحو 4000 يورو إلى 12000 يورو، أما في المرحلة الثانية فلم يتحقق أي نمو، فيما الدول الأوروبية الناشئة التي بقيت خارج اليورو حققت نمواً جيداً، كما أن المستقبل بعد الاتفاقية الاخيرة يبدو قاتما، فقد توقع الاقتصادي اشوكا مودي الأستاذ الزائر في جامعة برينستون أن ينكمش الاقتصاد اليوناني بنحو الـ10% خلال مرحلة التقشف الآتية.
ووافقته على ذلك إحدى مؤسسات الأعمال اليونانية، حيث توقعت انكماشا نسبته 3.5% هذه السنة بدل النمو المتوقع بـ2.9% نتيجة ارتفاع الضرائب والإجراءات الأخرى التي اتفق عليها في بروكسل. كما هاجم صندوق النقد الدولي خطة الإنقاذ الثالثة، إذ ستؤدي إلى ارتفاع الدين إلى الناتج المحلي الى 200% خلال سنتين. كل هذه الأرقام تعني أن الاستمرار في الدين والتقشف لن يزيد الوضع إلا سوءً وسيستمر الركود والانهيار الاقتصاديان.
إذا الحل يكمن في الإجراء الراديكالي بالخروج من اليورو واعتماد الدراخما مرة أخرى. إن هذا الخروج، على الرغم من السلبيات التي ستنشأ مؤقتا كإعادة توزيع الدخل الناتجة عن التغيرات المتوقعة في سعر الصرف، إلا أنه على المديين المتوسط والبعيد كان سيؤدي إلى إعادة انتعاش الاقتصاد اليوناني نتيجة لزيادة الصادرات والسياحة وانتفاء آثار التقشف.
في تموز 1794، بعد سنوات قليلة على الثورة الفرنسية، انقضّت الثورة المضادة على اليعاقبة وقادتهم روبسبيير وسان جوست. وهذه الحركة الثرموديرية (ثرمودير هو شهر تموز في الروزنامة التي اعتمدت بعد الثورة)، التي تغطت بإنهاء ما عرف بـ”حكم الإرهاب”، مهدت الطريق لعودة الملكية بشكلها الامبراطوري لنابليون، وقضت على الجمهورية الأولى. وكان البلاشفة في أوائل عهد الثورة الروسية مهووسين بفكرة الثرموديريين، أي أن تتعرض الثورة لخيانة من الداخل تعيد القيصرية أو أي شكل من أشكال الردة الرأسمالية، لكن لم يتحقق خوفهم إلا بعد 70 سنة من الثورة. في اليونان سمح تسيبراس بنشوء أسرع حركة انقلابية على ثورته الديمقراطية، التي رأى فيها اليونانيون وشعوب أوروبا والعالم أملا بالتغيير لكسر الجبروت الرأسمالي، الذي سحق شعوب العالم منذ 35 عاماً حتى الآن، لكن الأمل يبقى بأن يجد الشعب اليوناني، ومعه بعض الشعوب الأوروبية، بعد سنوات من الأزمة المستمرة، أنفسهم، كما وجد الشعب الروسي نفسه بين فبراير واكتوبر 1917، إنهم بحاجة إلى أن يعلنوا ثورتهم الراديكالية حقا لا أن يبقوا رعايا في دولة من روافد الإمبراطورية الأوروبية الجديدة.
كوادر:
– يتوقع أن ينكمش الاقتصاد اليوناني بنحو الـ10% خلال مرحلة التقشف الآتية. وهذا العام ، تشير التوقعات انكماشا نسبته 3.5% .
– الخروج من منطقة اليورو واعتماد الدراخما كان سيؤدي على المديين المتوسط والبعيد إلى إعادة انتعاش الاقتصاد اليوناني نتيجة لزيادة الصادرات والسياحة وانتفاء آثار التقشف