بقلم راميش جاجاناثان، نائب عميد جامعة نيويورك أبوظبي لشؤون ريادة الأعمال والابتكار، ومساعد عميد قسم الهندسة، والمدير العام لمنصة ستارت إيه دي
لا شك أن قطاع الإنشاء يعتبر واحداً من القطاعات الكبرى القليلة التي تؤثر في جميع جوانب حياتنا بشكل أو بآخر. ولا يمكننا أن نتجاهل الأهمية العالمية التي يتمتع بها قطاع البنية التحتية بشكل عام، وأثره على جودة الحياة، خاصةً وأن تاريخه يعود إلى العصر الروماني الذي يُعزَى الفضل إليه في اختراع الإسمنت، إذ يقال إن الإمبراطورية الرومانية كانت تملك شبكة طرقات بطول 400 ألف كيلومتر، كانت 80,500 كيلومتر منها ممهدة . كما أشارت دراسة حديثة أجرتها الأمم المتحدة إلى الأثر المباشر لبرامج البنى التحتية والإنشاءات على النمو الاقتصادي، حيث تحد بشكل مباشر من معدلات الفقر، علماً أن أكثر من مليار شخص قد تخطوا حاجز الفقر خلال العقود الثلاثة الماضية.
بالإضافةً إلى هذا، أكد تقرير صدر عن البنك الدولي مؤخراً على أهمية تطوير البنى التحتية ومشاريع الإنشاءات في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في الأسواق الناشئة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تطمح لها هذه الأسواق. كما أشار تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي (2014) إلى أن كل 1% من الناتج المحلي الإجمالي التي يتم استثمارها في قطاع البنى التحتية تعود بزيادة قدرها 0.4% على الناتج المحلي الإجمالي للعام ذاته و1.5% بعد أربعة أعوام.
ويشهد قطاع الإنشاء العالمي تطوراً إيجابياً، حيث يحقق نمواً بمعدل ثابت قدره 3.6% حتى عام 2022 لتبلغ قيمته 12.7 تريليون دولار أمريكي، أي ما يشكل 6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وقد يصل إلى 8% في الاقتصادات الناشئة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، بلغ إجمالي قيمة مشاريع الإنشاءات خلال عام 2017 حوالي 818.2 مليار دولار أمريكي، وهو ما يعادل ثلث القيمة الإجمالية وحوالي نصف مشاريع الإنشاءات في دول مجلس التعاون الخليجي، علماً أن مشاريع الإنشاءات التي تخص إكسبو 2020 في دبي تبلغ منفردة حوالي 42.5 مليار دولار أمريكي.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك فجوات في استثمارات البنى التحتية في هذه الاقتصادات تقدر بنحو 1.3 تريليون دولار أمريكي كل عام، حيث يواجه القطاع ضغوطاً غير مسبوقة خاصةً وأن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون اليوم في المدن. على سبيل المثال، يعيش 850 مليون صيني، أي 60% من التعداد السكاني، في المدن، ومن المتوقع أن تصل النسبة إلى ثلثين بحلول عام 2050. كما من المتوقع أن يصل حجم النفايات في مدن العالم بحلول عام 2025 إلى أكثر من 2.2 مليار طن سنوياً، ما يمثل زيادةً بنسبة 70% في غضون سبع سنوات فقط. هذا وتمتد المشاكل إلى كافة مناحي الحياة في المدن، كتلوث الهواء والضجيج والنقل ومتطلبات الطاقة والمشاكل الصحية والنفسية والتعليم والأمن.
وقد وضعت العديد من الدول سياسات وطنية لمواجهة هذه التحديات التي يفرضها التوسع العمراني، معتمدةً على مبادرات المدن الذكية التي تأتي في موضع الأولوية، علماً أن دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ تحتل موقع الصدارة في استثمارات المدن الذكية بمعدل نمو سنوي مركّب يبلغ 32%، تليها دول أمريكا الشمالية بمعدل 22%، في حين أن هذا المعدل يبلغ 6% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن جهتها، تسعى حكومة دولة الإمارات إلى جعل دبي أذكى مدينة في العالم بحلول عام 2021، بدءاً بخدمات النقل الذكية، ومروراً بالمساكن الذكية، وانتهاءً بالحكومة الذكية. كما سيجري تحويل أكثر من 1,000 خدمة حكومية إلى خدمات ’ذكية‘، في حين يتوقع أن تساهم مبادرات النقل في توفير ما يتعدى 5.9 مليار دولار أمريكي.
من المتعارف عليه أن قطاع الإنشاء جزء لا يتجزأ من أي برنامج للمدن الذكية. وفي هذا السياق، سلط تقرير صدر مؤخراً عن ’ماكنزي آند كومباني‘ الضوء على بعض من أهم المخاوف المتعلقة بالوضع الراهن لقطاع الإنشاء. وباختصار، فإن كبرى المشاريع في مختلف القطاعات والأصول تتخطى المواعيد المحددة لإنجازها بنسبة 20% وتتجاوز بكثير الميزانيات المعدة لها بمعدل يبلغ 80%، في حين أن الإنتاجية العمالية في قطاع الإنشاء قد راوحت مكانها خلال الربع قرن الماضى، متأخرةً بمعدل 30% عن إجمالي الإنتاجية الاقتصادية. فالابتكار في هذا القطاع لا يزال في حالة جمود لغاية الآن، حيث تقل ميزانية البحث والتطوير عن 1% من العائدات. أما فيما يخص التحول الرقمي، فإن قطاع الإنشاء يأتي في المرتبة 21 من أصل 22 من أهم القطاعات، متقدماً فقط على قطاع الزراعة والصيد، علماً أن هذا التصنيف يشمل ثلاث فئات ألا وهي الأصول والاستخدام واليد العاملة.
وأشار معهد ماكنزي العالمي في عام 2013 إلى أن الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي يستدعي أن ينفق قطاع الإنشاء ما يقرب من 57 تريليون دولار أمريكي (الأسعار بحسب 2010) بحلول عام 2030، ما يمثل أكثر من 60% مما أنفقه القطاع خلال العقدين الأخيرين. وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن تعويض 40% من هذا الإنفاق الإضافي من خلال تحسين الإنتاجية عن طريق التحويل الرقمي والاعتماد على تقنيات متوفرة حالياً. لكن المفارقة أن القطاع المسؤول عن بناء المدن الذكية معروف بعدم اعتماده على التكنولوجيا. وفي المقابل، نرى بأن عصر الآلة الثاني الذي انطلق في مرحلة الاكتشافات وصعد في ظل الانخفاض الحاد في سعر وحدات معالجة الرسوميات، ينمو بفضل الكم الهائل من البيانات المخزنة في السحابة الإلكترونية، معتمداً على ملايين المبرمجين من كافة أنحاء العالم. باختصار، فإن “البرمجيات تستحوذ على العالم” قطاعاً تلو الآخر، ولن يتأخر قطاع الإنشاء عن اللحاق بالركب.
ويتبنى قطاع الإنشاء مجموعة من التقنيات التي تساعده على تعزيز التنافسية والتعاطي مع التحديات المتنامية التي يواجهها، بدءاً بتزايد عدد السكان واستهلاك الطاقة وانتهاء بالتغير المناخي، ما يمنح الشركات الناشئة فرصةً فريدة لترك بصمة حقيقية على مستقبل القطاع. رأينا كيف غيرت شبكة الإنترنت التاريخ بتقنيات التصوير الرقمي التي باتت في متناول جيل الألفية، كذلك نرى اليوم إسهام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق في نشر تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بين الشركات الناشئة العالمية التي لا تعد ولا تحصى، ما يغير طريقة البناء بشكل جذري. لم يعد الأمر غريباً علينا، إنما يتمحور حول بناء بيوت في أقل من يوم وبتكلفة تقل عن 10 آلاف دولار أمريكي، وحول إعادة قدرة الأفراد على القيام بالإنشاءات وتقليل الاعتماد على أصحاب التخصصات وتسهيل الإنشاءات في كل مكان ووقت وبكلفة منخفضة.
وتغطي الابتكارات طيفاً واسعاً من المجالات التي تشمل: مجموعة من الروبوتات الصغيرة التي تشيد المباني ذاتياً، وتشييد مبنى بشكل مباشر من وعلى التربة المحلية، وتأمين ملاجئ طوارئ في أقل من نصف ساعة، وروبوتات تبنى الجسور في الوقت الحقيقي بحيث تسير على الأجزاء المكتملة وتتابع عملية التشييد. كما تشمل الابتكارات استخدام مواد بناء جديدة ومستدامة منها على سبيل المثال لا الحصر وحدات بناء تضم نظام تبريد مدمج بالتبخر وطوب سيراميك مصمم بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد باستخدام أجهزة حاسوب عادية ليناسب مختلف الأبنية، وكذلك تقنية التصميم الخارجي الذي يتلخص في صناعة روبوتات متخصصة في الطباعة ثلاثية الأبعاد تعمل على بناء الهياكل في الفضاء الخارجي وفي الوقت الحقيقي.
ولا تقتصر التغيرات التي تحدثها تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد على أثرها على نماذج الإنشاءات الحالية، حيث تستكشف آفاق غير مسبوقة تفوق تصوراتنا. فقد واجه المهندسون المعماريون في عملهم من قبل عراقيل نتيجةً للإجراءات والتكاليف، بحيث أجبرتهم على تشييد مبانٍ أضعف ذات خطوط مستقيمة وزوايا بدلاً من مبانٍ أقوى ذات خطوط منحنية، بينما تعتمد الطابعات ثلاثية الأبعاد على خلائط إسمنتية أكثف وأقوى ويمكن بكل سهولة طباعتها بأشكال منحنية. وحققت تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد إنجازاً تاريخياً آخر تمثل في إمكانية المزج بين مواد الإنشاء في الوقت الحقيقي مهما تنوعت، وبالتالي تشييد أبنية ذات خصائص مدمجة قابلة للتعديل. إذ يمكن على سبيل المثال طباعة مواد مرنة أو قاسية، ومواد بمختلف درجات الشفافية، وأخرى تتمتع بالتوافقية الحيوية، ودارات ومواد كهربائية تضم تقنيات ذكية.
وتسهم هذه القوى الكامنة التي تتمتع بها الطباعة ثلاثية الأبعاد في إحداث تغييرات في قطاع الإنشاء بشكل جذري وإعادة رسم معالمه، تقوم على التطورات الهائلة لتكنولوجيا البرمجيات التي ترتكز على الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق الذي يؤثر في مجالات عدّة على غرار روبوتات الإنشاءات ونماذج معلومات الإنشاء. ويمكن تعزيز السلامة وتقليل الإصابات في مواقع الإنشاء بالاعتماد على الهياكل الخارجية الروبوتية التي تضم عضلات آلية، في حين أن روبوت الإنشاء شبه المؤتمت، وهو روبوت متخصص في رصف الطوب، يمكنه وضع 800 إلى 1,200 قطعة طوب يومياً مقارنةً بعامل الإنشاءات المتمرس الذي يمكنه أن يضع يومياً 500 قطعة طوب. كما صممت شركة ’جينسلر‘ طائرة بدون طيار متخصصة في الطباعة ثلاثية الأبعاد مهمتها تشييد المباني في المناطق التي يصعب الوصول إليها، فصار يمكننا تخيّل زمناً نستطيع فيه أن نرسل هذه الطائرة لتشييد مبنى إسمنتي لاحتواء كارثة نووية كالتي وقعت في فوكوشيما.
ويستخدم المهندسون والمعماريون حالياً تقنية حاسوبية تقوم على الذكاء الاصطناعي تعرف باسم التصميم التوليدي، والتي تحاكي عملية التطور الطبيعي وتعمل على تقييم أعداد هائلة من خيارات التصاميم المعقدة والصارمة، بدءاً بالمتطلبات الأولية كحجم المبنى والمواد المفضلة والموقع الجغرافي وغير ذلك. كما أن انخفاض أسعار الأجهزة المتخصصة في الحوسبة السحابية قد جعل من تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز معايير قياسية تستخدم في قطاع العمارة والهندسة والإنشاء، ما أدى إلى تعزيز رضا العملاء وزيادة الإنتاجية وتقليل الهدر.
وقد باتت التكنولوجيا لأول مرة في التاريخ فرصةً لحل مشاكل مستعصية منذ زمن تتمثل في غياب الكفاءة في قطاع البنية التحتية، وبالتالي بناء مجتمعات أكثر صحة.