انتهينا للتو من مؤتمر القطاع المالي في الرياض، والذي جاء تتويجًا لنشاطاتنا ومُبادراتنا بعد أقل من شهر من استضافتنا للملتقى السنوي الخامس أنجل رايزينج (Angel Rising) الذي عُقد في مدينة أبوظبي. في الفترة السابقة، وتحديدًا في الخمس سنوات الماضية، لم يكن لما نفعله وما نقوم به معنى واضح أمام العامة. فالدور الذي اخترناه في تعزيز “جانب المستثمر” كان ذو وزن في مُعادلتنا. أطلقنا العديد من البرامج والمُبادرات التي هدفت لمساعدة روّاد الأعمال على الاستثمار الجريء، ولكن في ذلك الوقت لم يكن ذلك مدعومًا بدليل للطامحين منهم يُرشدهم حول أفضل السبل والطرق الاستثمارية الممكنة. كانت رغبتنا عارمة في تثقيف الراغبين بالاستثمار ومن ثم تحويلهم إلى مستثمرين حقيقين وفاعلين في السوق. باعتقادي أن الاستثمار في الكوادر الواعدة لا يكمن فقط في تأمين رأس المال لأعمالهم الناشئة، فنجاحهم لن يكتمل ما لم يكن ذلك مقرونًا بنقل الخبرة والمعرفة وتقديم الدعم والمساندة لهم من رجال الأعمال الذين سبقوهم في هذا الميدان وكان لهم باع طويل وسجل حافل بالنجاح. يقوم الرعاة (آنجلز) عادة بتقويم ودراسة كافة الطاقات والقدرات الكامنة في الراغبين بتأسيس أعمال جديدة مستلهمين الشغف والطموح الموجود فيهم، عطفا على دراسة فكرة المشروع والابتعاد عن أية مشاريع لا تمثل قيمة مضافة حقيقية للمجتمع، ولقد كان لهذه المجموعة دورٌ هام في تحديد الاختيارات الصحيحة وبالتالي ضخ الأموال الاستثمارية في مكانها الصحيح وذلك بفضل حكمتهم ودرايتهم وفهمهم العميق لمتطلبات الأعمال وحاجة المجتمع.
إن مُبادرة آنجل رايزينج (Angel Rising) تهدف إلى تثقيف المستثمرين عبر مشاركتهم قصص نجاح روّاد أعمال معروفين عالميًا، أناسٌ ملهمين بحق، أناسٌ سبق وأن أقاموا مشاريع جديدة وساهموا من خلال أفكارهم الاستثمارية ببناء وتعزيز النظام الإيكولوجي في المنطقة وفي كافة أنحاء العالم. وفي هذا العام، وبفضل الله عزوجل ومن ثم بدعم كريم من رعاة الحدث المُمثلين في الاتحاد للطيران بالإضافة إلى وزارة الاقتصاد في دولة الإمارات العربية المتحدة، استطعنا أن نستجلب العديد من المتحدثين المتميّزين من كافة أنحاء العالم لمناقشة باقة منوّعة من المواضيع الشيّقة والغنيّة التي عكست في رؤيتها الخلفيات المختلفة التي انطلق منها المتحدثون. ولعل
أهم ما تم التركيز عليه خلال الحدث هو موضوع “التطلع إلى الشرق” مع التركيز بشكل خاص على الصين والهند وبعض بلدان أفريقية جنوب الصحراء الكبرى. تحدثنا عن كيفية اختراق التكنولوجيا لهذه الأسواق بوتيرة سريعة، وعن تدفق الاستثمار إلى هذه المناطق وخارجها، وكذلك عن عدد المشاريع الجديدة التي وُلدت هناك في السنوات القليلة الماضية.
ولا شك أن الرسالة التي خرجت بعد حشد هذا العدد من المتحدثين المتميّزين بما لهم من نفوذ وتأثير كبير في مجال التكنولوجيا العالمية ضمن الأسواق الناشئة كان لها وقعٌ قويّ. فمن منظوري الشخصي، بيّن هذا الحدث للجميع الكم الهائل من التحديات والمعوّقات التي تواجه اللاعبين بهذا السوق، وبنفس الوقت بيّن الفرص الكامنة التي لا تزال تنتظر من يقتنصها. لذا يجب علينا أن نترصد فرصنا الكامنة في تلك الأسواق، ومتى ما نجحنا بذلك، ستبدو بالنسبة لنا أكبر بكثير من الفرص التي كنا ننظر إليها في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي أو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها.
بدأنا في الحديث عن الفرص الكامنة في الصين. حيث ناقش “وينستون ما” الرئيس التنفيذي لشركة تشاينا سيلك رود للاستثمار والتطوير، ما تشهده الصين من نهضة في حاضنات ومسرّعات الأعمال في مجال البرمجيات، وذكر أن الصين أصبحت تضم العدد الأكبر منها في العالم. إلا أن “كين ميلر” الذي كان يشغل سابقًا منصب نائب رئيس المصرفيين في كل من “ميريل لينش” و “كريديت سويس” قد طعن في ما إسهامات الصين في هذا المجال وفي مدى التأثير العالمي لها على عدد الحاضنات ومسرّعات الأعمال، وذكر أن ما يحدث اليوم ما هو إلا فقاعة؛ وأن معظمهم سيختفي من الساحة قريبًا. وفي نقد لاذع؛ علّق على الاستثمارات العالمية الجريئة بقوله: “الجميع يُشارك في استثمارات جرئية هذه الأيام. لكن إذا كنت لا تدير 400 مليون دولار فأنت بلا قيمة”. وبعد ذلك ناقش كلاهما المخاوف المشتركة التي نسمعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيما يخص هيكلة الشركات وإدارتها من الخارج (أوفشور) المُصاحبة لتأسيس المشاريع الجديدة، الذي يعتبر مخرجًا يُتيح للشركات إدراج نفسها في الأسواق الإقليمية أو العالمية. والرسالة الواضحة في هذا المقام كانت: أن ما يحدث بالصين بما يستتبعه من تضخم في معظم الأحيان؛ له تأثير على سائر دول العالم.
انتقلنا بعد ذلك إلى الهند مع “فاني كولا” مؤسّسة كالاري كابيتال، والتي تعتبر من أبرز المستثمرين النساء في الهند، وأيضًا “أنشومان بابنا” رئيس إدارة المنتجات في مجموعة مايك ماي تريب. حيث ذكر المتحدثان أن الهند باتت تشهد في الآونة الأخيرة فقزة نوعية من حيث تدفق أموال الاستثمار الجرئ بنسبة تعادل عشرة أضعاف مثيلاتها مقارنة بالعشر سنوات السابقة. وكنتيجة لذلك، بدأت الشركات الناشئة والجديدة تزداد قوة يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، واحتمالية تضاعف وتيرة هذا النمو ليس بالأمر البعيد. والرسالة الواضحة التي أفضى إليها النقاش كانت: الاستثمار بالهند هو لعبة طويل الأجل، إلا أن آفاق النمو والازدهار في الهند وحدها والتي تشهدها البلاد حاليا، يجعل من فكرة الاستثمار فكرة جديرة بالاهتمام.
بعد ذلك تحدث “بول توكوبونج” الشريك المؤسس في سي. آر. إي. فينتشورز، المستثمر الأكثر نشاطا في المرحلة الحاضنة ضمن دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والذي أسهم في إبراز بعض الشركات الإفريقية المذهلة خلال الآونة الأخيرة، ذكر أن معظم هذه الشركات تقدم خدماتها لعملاء خارج قارة أفريقيا. وجميعها نمت بشكل كامل محليًا بدءًا من إطلاقها وتطويرها وتزويدها بالمواهب وتوسيع نطاقها، ولكنها تخدم الأسواق البعيدة من إفريقيا. وقد أشار بذكاء إلى نموذج العمل فيها مشبها إياه بالعولمة المحلية. واختتم النقاش حول هذه النقطة برسالة واضحة مفادها: إفريقيا ليست سوقًا مقصورة على شواطئ القارة.
أخيرًا، ركّزت “جيليان مانوس” الشريك الإدارة لشركة ستركتشر كابيتال والتي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، على نموذج أعمال القرن الحادي والعشرين المتمثل في عدم استرجاع الأموال فحسب؛ بل التركيز أيضًا على الدور التنموي والقيمة الحقيقية التي تعود على المجتمع. فهم باتوا ينظرون إلى “القيم” التي تتبناها الشركات لا إلى “القيمة”. وقد طُلب منها أن تعطي مقارنة ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وقد أدهشت الجميع عندما ذكرت أن الصين في مسيرة تقدمية نحو مستقبل مشرق. وقد بدأ وادي السيليكون الآن في اتباع بعض الأساليب المبتكرة في الصين والتي تم اختبارها في أسواق ضخمة والتي أصبحت تؤثر على النظام الإيكولوجي للتكنولوجيا العالمية. وخلص في النقاش في نهاية المطاف إلى رسالة واضحة مفادها: الصينيون قوة لا يُستهان بها.
ما العلاقة التي تربط ذلك بدول مجلس التعاون الخليجي، وتحديدًا المملكة العربية السعودية؟ فعاليات ومُبادرات مثل أنجل رايزينج (Angel Rising) والمؤتمرات التي تعقدها القطاعات المالية تبين لنا بما لا يدع مجالا للشك بأن سوق الاستثمار في التكنولوجيا قد حان. لكننا بحاجة إلى إدارك أننا جزء من هذه اللعبة العالمية المرتكزة على الاستثمار في مشاريع ريادية، وفي بعض المحافل، يُطلق البعض على المنافسة القائمة حاليًا بالسباق المحموم. فما هو متاح أمامنا الآن من فرص لهو أكبر بكثير من الفرص الموجودة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها، فنحن اليوم، وبالمعنى الحرفي للكلمة، نتوسط كل شيء، فالأموال تنتقل من الشرق إلى إفريقيا مرورًا بمجلس التعاون الخليجي، وكذلك أنشطة التمويل وأعمال التجارة الدولية الخارجة من الولايات المتحدة الأمريكية تمر في معظم الأحيان عبر منطقتنا. لذا فإن الفرصة سانحة دون أدنى شك، فإذا استطعنا الاستفادة ولو بنسبة ضئيلة من هذه التدفقات الرأسمالية الذكية، فإن هذا سينعكس بشكل كبير على نواح كثيرة مثل: نقل المعرفة، الوصول إلى أسواق جديدة، فتح مجالات للمواهب الباحثة عن عمل من خلال استغلال الفرص الإقليمية. ولكي نضع ذلك موضع التنفيذ لدينا، يتوجب علينا حل بعض المعضلات الجليّة التي تقف حجر عثرة أما النهضة والتقدم والازدهار، فعلى سبيل المثال؛ يجب التأكد من أن الهيكلة الإدارية في شركاتنا مناسبة وخادمة لتشغيل رأس المال الاستثماري الجريء، ويجب أن يكون ذلك مصحوبًا بتسهيل عملية ممارسة الأعمال التجارية في المملكة العربية السعودية. كما ويجب علينا إبراز الدور الهام الذي تلعبه الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية (ساجيا) والجهود الملموسة التي تبذلها للسماح للصناديق والشركات العالمية في الاستثمار الجريء والوصول إلى الأسواق السعودية ضمن بيئة استثمارية محفزة ومشجعة. ولا شك أن هذا من شأنه أن يُسهم في تعزيز النهضة الاستثمارية التي تتطلع المملكة العربية السعودية لدعمها فيما يخص مشاريع الاستثمار الجريء. اليوم، تعمل الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية على تطبيق أفضل الممارسات عند التعامل مع الشركات الناشئة للحصول على التمويل بشروط مقبولة عالميًا، وهذه الطريقة تعد من أفضل الطرق التي تساعد على بدء نظام إيكولوجي متكامل.
خلاصة القول، ما تشهده منطقتنا حاليا هو تحرك بالاتجاه الصحيح. ولا ننكر وجود بعض الثغرات والعوائق، إلا أن (فينتشر سوق) ومجموعات أخرى مثلنا وبالتعاون مع شركاؤنا (بياك) نعمل جاهدين على سد هذه الثغرات وتجاوز كافة العوائق والعراقيل. ولله الحمد، استطعنا خلال فترة وجيزة أن نساعد العديد من الشركات الناشئة على جميع تمويلات من مستثمرين عالميين وإقليميين ومحليين. ودفعنا بالعديد من الشركات للدخول في السوق السعودي، كما وكان لنا دور في توجيه شركات سعودية كثيرة لكي تتمكن من اختراق أسواق جديدة. عمليات الاستحواذ مثل “سوق” (2017) والآن “كريم” أمثلة رائعة للنقلة الجريئة التي بدأنا نشهدها في نوعية الاستثمار في الشركات التكنولوجية المتطلعة لأفق لا محدود خارج الإطار التقليدي. لننسى وادي السيليكون. العالم كله بات منفتحًا على الأعمال بشتى أنواعها، ونحن هنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نقف في المنتصف.