دبي – خاص
بقلم : مريم الحمادي، مدير مؤسسة القلب الكبير
منذ تسعينيات القرن الماضي تحول الحديث عن المستقبل إلى مزيج مبرر ما بين الهاجس والشغف، ولا يكاد يخلو شهر في رزنامة العام، من فعالية أو مبادرة تستعرض سبل استشراف المستقبل: مستقبل سوق العمل، مستقبل التكنولوجيا والذكاء الصناعي، مستقبل المناخ والبيئة، مستقبل وسائل النقل والاتصال…
ولكي يكون الحديث عن المستقبل مجدياً وفي سياقه السليم، لا بد من التذكير ببعض البديهيات حتى لا تتحول إلى مسلمات وتختفي تدريجياً من مشهد الجدل العالمي، فبعض الأحاديث التي تتناول المستقبل، توحي وكأنه تلك المحطة البعيدة في أفق الزمن، التي تشكلت واتخذت سماتها ونحن ذاهبون باتجاهها حتماً، وعلينا أن نتحضر للقائها وهذا شعور سائد يجب تصحيحه. وأبرز تلك البديهيات:
أن يكون أي حديث عن المستقبل هو حديث عن الإنسان أولاً، إذ لا يمكن الفصل بين مستقبل الأعمال والتقنيات والاختراعات والسياسات والقوانين، وبين نجاح استشراف مسيرة التنمية نحو الاستدامة ، وبين الإنسان الذي على أساس ثقافته ومهاراته سيتحدد شكل هذه القطاعات ومستوى استقرارها.
بالاستناد إلى هذه الحقائق وضرورة تحويلها إلى قاعدة ومنهج للخطط والبرامج والسياسات العامة، حددنا أهداف “مؤتمر الاستثمار في المستقبل” في كافة دوراته، وهي ترميم النسيج الاجتماعي وإصلاح الضرر الذي تسببت به النزاعات والكوارث والفقر، أي الاستثمار في الإنسان وغرس بذور ثقافته ووعيه ليزهر ممارسات إيجابية ملتزمة ومفيدة.
في الدورة الأولى، طرح مؤتمر الاستثمار في المستقبل أمام الحكومات والمنظمات الدولية، قضية الأطفال واليافعين الذين تأثروا بالصراعات والنزاعات، وفي الثانية تناول قضية تكافؤ الفرص وعدالتها بين الجنسين، وفي الثالثة -التي نحن على موعد معها في 24 أكتوبر الحالي- سيطرح قضايا وهموم الشباب ضحايا الصراعات والأزمات والفقر. واخترنا لهذه الدورة شعار “الشباب… تحديات الأزمات وفرص التنمية” لتكون رسالتنا أن هناك أمل وهناك فرصة ليس لهؤلاء الشباب فقط، بل وللمجتمع والاقتصاد العالميين تتمثل بالاستفادة من طاقاتهم ومن دمجهم في منظومة الريادة والشراكة الكاملة وصنع القرار.
ولتحقيق هذه الرسالة، سنركز من خلال مؤتمر الاستثمار في المستقبل على عدة محاور، وسنحاول أن تكون موضع توافق على المستويين الرسمي والمؤسساتي: المحور الأول هو كيفية توفير الدعم والمساعدة للشباب – ضحايا الأزمات والصراعات، وأولئك الذين يعانون من تحديات اللجوء القسري خاصةً أن نسبة 85% منهم لجأوا إلى دول نامية تكافح من أجل النهوض باقتصادها وبنيتها التحتية وخدماتها الصحية والتعليمية.
المحور الثاني يتناول واقع ومستقبل التعليم والفروق الشاسعة بين ارتفاع نسبة المتعلمين بين الشباب مقابل ارتفاع نسب البطالة، ونطرح من خلال هذا المحور أهمية تحقيق التوازن بين المهارات التي يتطلبها سوق العمل والمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وبحث السبل الكفيلة بالاستفادة من طاقات الشباب وإدماجهم كقوة عمل تساهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي وتشارك في البناء الاجتماعي.
ويتمثل المحور الثالث في تغيير عقلية التعامل مع تمكين الشباب من مهارات ريادة الأعمال ، في ظل التغيرات المتسارعة على أسواق العمل ومتطلباته. لا شك في أن الاستثمار في طاقات الشباب وتطوير ثقافة ريادة الأعمال لديهم يؤهلهم بشكل كامل للمشاركة في البناء والنمو الاقتصادي ويجعلهم أكثر قدرة على استحداث فرص عمل لمختلف الفئات الاجتماعية وتوجيه طاقاتهم نحو استثمارات ذات بعد اجتماعي يخدم أهداف التنمية المستدامة.
أما المحور الرابع فيركز على الفرص الضائعة أمام الفتيات بفعل التقاليد والعادات السائدة التي تؤخر تقدمهن في العمل والحصول على وظائف وإمكانات لتطوير مهاراتهن المهنية فيصبحن مشاركات في مسيرة التنمية جنباً إلى جنب مع الرجل.
وإذا تمعنا بما يقوله الخبراء فإن المشكلات الاجتماعية والثقافية السائدة في هذه المرحلة، تعود أسبابها إلى التهميش والإهمال والإقصاء القصري للشباب من الجنسين الذين يعيشون ظروفاً استثنائية صعبة على وجه الخصوص. إن غياب الفرص أمام هؤلاء وضعهم في تناقض مع مجتمعاتهم وفي حالة رفض للثقافة والفعل الجماعيين، وهو ما أوصلهم إلى مرحلة من الشعور بالظلم دفعتهم للتفتيش عن وسائل ضارة ليستيعيدوا فيها مكانتهم وليُسمعوا العالم صوتهم.
عندما يشعر الشباب أن المجتمعات المحلية والمجتمع الدولي لم تعد حاضنة وفية لهمومهم، سيفتشون حتماً عن حواضن بديلة تكون على تناقض تام مع المجتمعات التي يشعرون أنها استثنتهم.
الأمر ذاته ينطبق على المشكلات الاقتصادية العالمية، إنها سلسلة مترابطة، إذا ضعفت إحدى حلقاتها تفككت، فكيف إذا كانت هذه الحلقة الأقوى والأكثر أهمية وهي الشباب، أداة التغيير والتجديد والتطور ومؤشر الحياة لكل أمة.