بقلم : أمجد سلامة
في السنوات القليلة الماضية، اجتاحت أخبار مؤسّسي الشركات التكنولوجية حياتنا اليومية، مُحاطة بهالة من التقديس يفرضها نجاح أباطرتها في تأسيس إمبراطوريات اقتصادية ومالية. في هذا السياق، درج على الألسن مصطلح «روّاد الأعمال»، وهو مصطلح يُراد منه التعريف بهؤلاء المشاهير، الفاحشي الثراء، على أنهم رجال أعمال رياديون. ولكن عند التمعّن في الصورة التي يعكسها النموذج الاقتصادي الذي يقدّمه هذا النوع من «روّاد الأعمال» سنجد أنفسنا أمام مصطلح مُبهم وغامض ينطوي على عمل أيديولوجي ولا يقوم على أي دراسة موضوعية.
يُستعمل مصطلح «ريادة الأعمال» لتوصيف ظواهر كثيرة، منها التجارية والاقتصادية، ومنها المبادرات الاجتماعية. وكذلك يمكن أن يضيق استعماله ليشمل الشركات الصغيرة والحديثة التأسيس، أو أن يتّسع ليشمل الشركات الكبرى المُخضرمة في الأسواق. ويُستعمل المصطلح للدلالة على حسّ فطري لدى رجل الأعمال، وللدلالة على منهج يُتّبع لتأسيس الشركات. كلّ هذه الاستخدامات والدلالات لمصطلح واحد تجعله ضبابياً يكتنفه الكثير من الغموض، وهذه سمة سلبية جداً لمصطلح يُبنى عليه الكثير من الدعاية والأحلام في حياتنا اليومية، ويُنظّر كحلّ اقتصادي، سواء على صعيد عالمي أو على صعيد الدول النامية.
يشرح بير ديفيدسون، في كتابه «البحث في ريادة الأعمال»، أنّ استعمال مصطلح ريادة الأعمال عادة ما يكون دالاً على واقعين اجتماعيين: الأول هو ظاهرة «العامل لحسابه»، والثاني هو دور «العوامل الجزئية» في المبادرة والمثابرة لإحداث تغيير في المجتمع والاقتصاد.
والمقصود، عند الحديث عن العاملين لحسابهم، تلك شريحة من القوة العاملة التي لا تعمل لحساب أشخاص آخرين، وتستعيض عن ذلك بمنظومة مختلفة للمخاطر والمكافآت تفرض مروحة نتائج مالية أوسع من العمل المأجور، وحدوداً أقل وضوحاً بين العمل والراحة. وهنا يظهر روّاد الأعمال كمؤسّسين لشركات جديدة، عادة ما تحتاج في مراحل تأسيسها لإدخال عوامل «الابتكار» على الصناعات التي تخدمها، لأنها صناعات عادة ما تكون ذات قيمة مُضافة قليلة أو متوسطة على الاقتصاد.
والحديث عن العوامل الجزئية المؤثرة في التغيير مبنيّ على قاعدة مقاومة المؤسّسات والأطر السوقية والتنظيمية للتغيير. فهي لن تبادر إلى التغيير إلا بعد تدخل العامل البشري الذي يدفع إلى التغيير عبر المعرفة الفردية والأهداف الفريدة للأفراد المجهّزين لاتخاذ الإجراءات التي تبتكر الجديد. وحتى يكون لهذه المبادرات الجديدة تأثير دائم، فإنها تحتاج إلى خلق قيمة مضافة أو توفير في الموارد.
الريادة والمجتمع الجديد
من هنا تظهر قيمة التجديد والابتكار وأهميتهما عند استعمال مصطلح ريادة الأعمال، إذ يذهب البعض بعيداً في التركيز على هذين البُعدين لدرجة حصر استعمال المصطلح بالابتكار، وربط النمو الاقتصادي بالاتجاه نحو ريادة الأعمال كنموذج لاستثمار رأس المال ومضاعفته. ويتبنّى هذا التفسير ستيفين سبينيللي، في كتابه «إنشاء المشاريع الجديدة: الريادة في القرن الواحد والعشرين». ويستعرض بعض الصناعات «الريادية» التي تضاعفت قيمة رأس المال فيها خلال أقل من عقد، كقطاعات الطاقة الشمسية والإلكترونيات.
ريادة الأعمال هي تمظهر لإعادة تنظيم الاقتصاد ونقل المجتمعات إلى حالات فردية بعد تفكّك نظام الإنتاج الفوردي وما نتج منه من مصالح جماعية
بالإضافة إلى استعراض الزيادات المطّردة على الناتج المحلي الإجمالي الذي ولّدته الشركات الريادية في هذه القطاعات ونسبة الوظائف الإضافية التي ولّدتها في القطاع الخاص. ويخلص إلى أن القرن الحالي هو قرن الابتكار ولا ريادة أعمال من دون ابتكار. وهذا النوع من ريادة الأعمال سيحوّل الفقراء إلى أغنياء. فهي متركّزة حول اقتناص الفرص والكفاءة وتكافؤ فرص أصحاب الموهبة والجدّ في العمل فقط، بغضّ النظر عن الطبقة الاجتماعية والجنس والانتماءات المختلفة. بمعنى آخر، نحن أمام ظاهرة تعتمد على الفرد، وهي ظاهرة اقتصادية وسوقية واجتماعية ستعيد تشكيل المجتمعات التي تتبنّاها وتسعى إلى تطبيقها.
التغيير في السوق
ولكن ديفيدسون لا يوافق على هذا التعريف لريادة الأعمال. فهو بعد أن يعترف بأنّ هذا التعريف هو أحد التعريفات الكثيرة للمصطلح، يذهب باتجاه تعريف أكثر شمولية. فينطلق بتعريفه من أن ريادة الأعمال هي السلوكيات التنافسية التي تدفع آلية عمل السوق. والأساس هو السلوك معطوفاً على النتائج، فالسلوك هو الضامن لأن تكون القرارات على مستوى الاقتصاد الجزئي دافعة نحو التغيير، أمّا النتائج فتعبّرعن وقع القرارات في عملية التغيير. إذاً، الأساس هو دفع آليات السوق عبر نتائج مباشرة أو غير مباشرة للعمل.
ومن هنا يضع ديفيدسون ريادة الأعمال في خانة الأفعال السوقية البحتة، حيث يقدّم مورّد منتجاً جديداً أو مُحسّناً أو منافساً. ويكون العمل في سوق صاعد أو قائم، ويقدّم للزبائن قيمة مضافة مقابل مالهم، ما يحفّز مؤثرين آخرين في السوق، إمّا لتقديم منتجات أخرى جديدة أو لتحسين منتجاتهم أو رفع فعالية أعمالهم. فريادة الأعمال هي النشاطات الاقتصادية الجديدة التي تؤدّي إلى التغيير في السوق.
ولكنّ أمام هذا التعريف تحدّيين رئيسيين: الأول هو قياس مستوى التغيير للنشاط الاقتصادي، والثاني هو تعريف «الجديد» في «النشاطات الاقتصادية الجديدة». فعند محاولة قياس التغيير الاقتصادي، يقترح البعض احتساب كمية الثروة التي خلقها العمل (كما تباهى سبينيللي مثلاً)، ولكن ديفيدسون يرى أن هذه الطريقة في القياس غير صحيحة لصعوبة تتبّع التأثيرات المباشرة وغير المباشرة في الاقتصادات المعقّدة، مع تركيزه على وجوب الأخذ بالاعتبار النتائج غير المباشرة للعمل. وهذه التأثيرات ليست محصورة بالمالية فقط، بل تتعدّاها إلى التعلّم والتقليد ورفع الفعالية في السوق، وهي عوامل لا يمكن قياسها بالتراكم المباشر للثروة.
وأمّا بالنسبة إلى تعريف ما هو «الجديد»، فيذهب ديفيدسون إلى رفض حصره بالابتكار. فبالبنسبة إليه، الكمّ الكبير للمشاريع المبنيّة على الأفكار المبتكرة، التي فشلت لا تجيز اعتبار الابتكار التعريف الوحيد لما هو جديد. فهذا النوع من المشاريع من الصعب إنجاحه، بالإضافة إلى أنّ ما هو جديد سيكون نسبياً بالنسبة إلى المؤثّرين في السوق، كلّ وفق محافظته وانفتاحه في الأعمال السوقيّة.
ازدياد معدلات البطالة خلق حاجة لنظرية بديلة تنقل المسؤولية عن كاهل التركيبة الاقتصادية ــ الاجتماعية إلى كاهل الفرد
وبناءً عليه، يرى ديفيدسون أنّه يجب تقليل أهمية عامل الابتكار في تصنيف أي نشاطات تقع تحت خانة ريادة الأعمال.
لكن هذا التفسير، الذي يقدّمه ديفيدسون لريادة الأعمال، لا يلقى الكثير من الرواج في الأوساط الاقتصادية اليوم، والتعريف الغالب هو ذاك الذي يقدّم ريادة الأعمال كحلّ سحري لمشاكل البطالة، وأداة للتغيير الاجتماعي الجذري. فإعادة التنظيم الاقتصادي، الذي فرضته السياسات النيوليبرالية التي أتت بها مارغريت ثاتشر، تعطي هامشاً مهماً لريادة الأعمال، بتعريفها الضيّق، كالذي طرحه سبينيللي.
أيديولوجيا التركيبة الجديدة
يوصّف روجر بوروز، في كتابه «فكّ شيفرة ثقافة ريادة الأعمال»، هذا المسار الذي دفع إلى الهوس بريادة الأعمال. فهو لا يرى في سياسات ثاتشر إلا تمظهراً لعوارض إعادة تنظيم الاقتصاد الذي فرضته التغييرات التي كانت تشهدها الساحة الاقتصادية الدولية. وكان يجب أن تنقل تغييرات جذرية كهذه المجتمعات إلى حالات فردية بعد تفكّك نظام الإنتاج الفوردي وما نجم عنه من تشكّل مصالح جماعية. وازدياد معدلات البطالة بعد منتصف السبعينيات خلق حاجة لنظرية بديلة لنقل المسؤولية عن كاهل التركيبة الاقتصادية ــ الاجتماعية إلى كاهل الفرد وحافزيته (أحد الأمثلة على هذا دخول مفهوم العامل لحسابه بقوة على ساحة التنظير الاقتصادي). ويرى بوروز في التنظير لريادة الأعمال، في شكلها هذا، عملاً أيديولوجياً أكثر منه دراسات موضوعية.
هنالك فارق كبير ما بين التنظير الأيديولوجي والتعريف الأشمل لريادة الأعمال، فالأول تترتّب عليه إعادة تنظيم اقتصادي لنقل البنى الاقتصادية من بنى تتأثّر بقيم جماعية إلى اقتصاد يتمحور حول قيم الفرد، أي إحداث تغيير على مستوى الاقتصاد الكلّي. بينما تعريف ديفيدسون هو توصيف قد ينطبق على دكّان الحيّ الجديد، الذي فرض على باقي المنافسين في السوق تغيير طريقة عملهم على مستوى الاقتصاد الجزئي، وقد تصبّ نتائجه في الاقتصاد الكلي.