دبي – خاص
في عالم تتسارع فيه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ويتنامى فيه وعي الجمهور بحقوقه وقيمه، لم يعد تقديم منتجات أو خدمات عالية الجودة كافيًا لبناء علامة تجارية ناجحة، فالسوق اليوم يشهد منافسة شرسة، وتنوعًا واسعًا في الخيارات، وجمهورًا أكثر تطلبًا، لا يبحث فقط عن المزايا المادية، بل يتوقف ليسأل: ما الذي تمثله هذه العلامة؟ ما رسالتها؟ وما القيم التي تتبناها وتدافع عنها؟
من هنا، بات ضروريًا أن تتجاوز العلامات التجارية هدف البيع إلى تقديم قيمة حقيقية والمشاركة في قضايا المجتمع، وهكذا نشأ مفهوم “العلاقات العامة القائمة على القيم” (Purpose-Driven PR)، كأحد أبرز توجهات الاتصال المؤسسي الحديث، حيث يعكس تحوّل العلامة من كيان ربحي، إلى طرف مؤثر يحمل موقفًا أخلاقيًا تجاه القضايا الإنسانية والبيئية والثقافية.
تحوّل في أولويات الجمهور
يرصد المتابع الجيد لمواقع التواصل الاجتماعي تزايد اهتمام المستهلكين بالقضايا التي تتماشى مع قيمهم، مع تفضيلهم للعلامات التي تتخذ مواقف واضحة، ويرى الخبراء أن هذا التوجّه يعكس وعيًا متناميًا لدى الجمهور، خاصة في ظل الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد-19، وتغير المناخ، والتوترات الجيوسياسية، التي أعادت تشكيل أولويات الأفراد.
فلم تعد الإعلانات البراقة والوعود التسويقية كافية لإقناع جمهور نقدي وواعٍ، بل يبحث عن العمق، ويفضّل المؤسسات التي تعكس قناعاته، ومن هذا المنطلق، ظهر ما يُعرف بـ “الاقتصاد الأخلاقي”، الذي لا يقتصر هدفه على تعظيم الأرباح، بل يضع العدالة، والشفافية، وحماية البيئة في صميم أنشطته.
من الشعارات إلى الممارسة
العلامة التجارية التي تقودها القيم لا تكتفي بالشعارات أو الحملات الموسمية، بل تدمج رسالتها الأخلاقية في جميع جوانب عملها، بما في ذلك: الإدارة العليا، والموظفين، وتصميم المنتجات، وسلسلة الإمداد، والتفاعل مع الجمهور، فالقيم تُعاش يوميًا في المؤسسة، وتُترجم إلى قرارات ملموسة، مثل التوظيف، والشراكات المنسجمة مع القيم المُعلنة.
وبهذا تتحوّل العلاقات العامة إلى أداة جوهرية، لسرد قصص حقيقية وأصيلة تعبّر عن التزام المؤسسة، لكن نجاح هذا السرد يعتمد على المصداقية؛ إذ يمكن للمستهلك كشف التناقضات بسهولة، كما أن المبادرات السطحية تؤدي إلى فقدان الثقة أو حتى المقاطعة.
نماذج عالمية قيّمة
أثبتت علامات تجارية عالمية أن الالتزام بالقيم يمكن أن يكون مصدر قوة وميزة تنافسية حقيقية، ومنها:
- تسلا – Tesla: جعلت من الاستدامة والابتكار محورًا لهويتها، وأسهمت في إعادة تشكيل مستقبل النقل عبر الطاقة النظيفة.
- نايك – Nike: تبنّت رسائل التمكين ومكافحة التمييز، وحرصت من خلال حملاتها الإعلانية على دعم الرياضيين من خلفيات متنوعة.
- باتاغونيا – Patagonia: شركة أميركية متخصصة في صناعة الملابس، ارتبط اسمها بحماية البيئة واستخدام المواد المستدامة، بل إن مؤسسها تبرّع بملكية الشركة لصندوق بيئي لضمان استمرار الرسالة.
- بن أند جيري – Ben & Jerry’s: استخدمت منتجاتها (الآيس كريم) لنشر رسائل تعبر عن العدالة الاجتماعية، وابتكرت نكهات مستوحاة من قضايا سياسية وإنسانية.
العلامات السعودية.. القيم في صميم التحوّل
أما في المملكة العربية السعودية، وبدعم من رؤية 2030، فقد بدأت العلامات التجارية الوطنية بتبنّي نهجٍ قيمي، يعكس توجهًا إستراتيجيًا نحو قضايا عدة، مثل الاستدامة، وتمكين المرأة، والمشاركة المجتمعية، ومن بين هذه العلامات:
- أرامكو السعودية: استثمرت أكثر من 370 مليون دولار في مبادرات تنموية شملت التعليم، والصحة، والثقافة، والبنية التحتية، داخل المملكة وخارجها.
- روشن العقارية: أطلقت برنامج “يحييك” لتحسين جودة الحياة والحفاظ على التراث الثقافي، والذي يعكس قيم التمكين والثقة والاستدامة.
- زين السعودية: من أبرز برامجها “المرأة في التقنية” لدعم الطالبات الجامعيات في مجالات العلوم والتقنية والرياضيات (STEM)، إلى جانب برنامج EVOLVE المخصص لتمكين الخريجين الجدد من دخول سوق العمل.
- بوبا العربية: أطلقت عدة برامج ومبادرات تعزز الصحة العامة والرفاه، من بينها برنامج “حياتك صح” لنشر ثقافة أنماط الحياة الصحية، إلى جانب تنظيمها فعاليات رياضية وثقافية، أبرزها بطولة بوبا بادل التي جمعت بين الرياضة والمشاركة المجتمعية.
- MZN Bodycare وChampion: علامتان سعوديتان في قطاع الجمال تبنّتا فلسفة الإنتاج النظيف، معتمدتين على مكونات طبيعية ومحلية، بهدف ترسيخ قيم الجمال الأخلاقي وحماية البيئة، بما يواكب القيم الجديدة للمستهلك السعودي.
القيم ليست رفاهية… بل إستراتيجية استدامة
ينظر البعض للعلاقات العامة القائمة على القيم كتوجه تسويقي، لكنها في الواقع تحوّل إستراتيجي طويل الأمد ينطلق من الداخل، ويُترجم إلى قرارات يومية، فالمؤسسات لا تتبنى القيم لتحسين صورتها فقط، بل لأنها تؤمن بأنها ركيزة للنجاح المستدام.
لكن ينبغي الحذر؛ فالتبنّي السطحي للقيم، قد يقود لأزمة ثقة يصعب تجاوزها في عصر الشفافية الرقمية، حيث يُرصد كل تناقض، ويُكتشف كل زيف.
القيمة لا تُشتر.. بل تُبنى
العلامة التي تقودها القيم لا تسعى للربح فقط، بل لترك أثر مستدام في حياة الناس وبيئتها، وهنا تصبح العلاقات العامة أداة لبناء علاقة مع الجمهور تقوم على الصدق والثقة.
وتؤكد W7Worldwide للاستشارات الإستراتيجية والإعلامية، أن بناء علامة تجارية قائمة على القيم ينطلق من ثقافة المؤسسة، حيث تتحول الرسالة إلى سلوك يومي قبل الترويج الخارجي، موصية باتباع نهج مبتكر لتوثيق القيم في الرؤية والرسالة المؤسسية وضمان مواءمتها مع المبادرات الفعلية، ودمج هذه الرسائل القيمية في جميع نقاط الاتصال، وتعزيزها بشراكات مع المجتمع المدني لترسيخ التأثير.
هل يجب الإعلان عن كل المبادرات؟
ليس من الضروري الإعلان عن جميع المبادرات القائمة على القيم، فبعض العلامات تتخذ خطوات مؤثرة بعيدًا عن الأضواء، دون أن يقلل ذلك من قيمتها، فالمهم أن تكون هذه الخطوات نابعة من قناعة داخلية، وتتسم بالاتساق والاستدامة.
فالعلامة الحقيقية لا تتردد في التضحية بجزء من أرباحها إذا اقتضى الأمر حفاظًا على مبادئها، وهو ما يعكس شجاعة والتزامًا حقيقيًا، على عكس من يتخذ القيم غطاءً مؤقتًا، سرعان ما ينكشف في مواجهة أزمة ثقة يصعب تجاوزها.
6 نصائح لبناء علامة تجارية قائمة على القيم:
1- ابدأ من الداخل: ممارسة القيم في المؤسسات تبدأ من الإدارة العليا وتمتد إلى جميع الموظفين، فهي أسلوب حياة لا مجرد شعارات، وإذا لم تُمارس داخليًا، لن تُقنع خارجيًا.
2- حوّل القيم إلى قصة: اصنع قصصًا صادقة ترتبط بهدف العلامة المجتمعي أو البيئي، وادمجها في كل رسالة أو حملة، فالقصة الأصيلة تترك أثرًا لا يُنسى لدى الجمهور.
3- طابق بين الأقوال والأفعال: لكسب ثقة الجمهور، لا بد أن تنعكس القيم في القرارات والممارسات اليومية، مثل التوظيف المسؤول أو الإنتاج المستدام، فالجمهور اليوم أكثر وعيًا ويميز بين الأفعال الحقيقية والشعارات.
4- درّب فريقك الإعلامي: ليكون التواصل فعّالًا، يجب أن يُعبّر المتحدثون الرسميون والمحتوى الإعلامي عن القيم بأسلوب طبيعي ومتّسق، ما يعزّز الثقة ويُرسّخ الولاء.
5- ادمج القيم في الحملات: اجعل القيم جزءًا أساسيًا من الحملات الإعلانية والمبادرات المجتمعية، لتتحول من مجرد كلمات إلى ممارسات ملموسة.
6- حدّد القيم الأساسية بدقة: القيم تشكّل هوية العلامة وتوجّه قراراتها وتفاعلها مع المجتمع وأصحاب المصلحة، والاتساق في طرحها يعزّز المصداقية ويبني علاقة طويلة الأمد مع الجمهور.
وفي الختام، لم تعد العلاقات العامة القائمة على القيم خيارًا، بل أصبحت ضرورة في مشهد اتصالي يتّسم بالشفافية والمساءلة، فهي الأداة التي تمكّن العلامات التجارية من بناء روابط حقيقية مع الجمهور، والتعبير عن التزامها بمبادئ تتجاوز المنفعة، ما يعزز الثقة، ويبني علاقة مستدامة تقوم على الاحترام والمشاركة الصادقة.