بقلم طارق العنقري، الرئيس التنفيذي لشركة e& enterprise – المملكة العربية السعودية الرياض – خاص أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، شركة هيوماين وهي ، شركة وطنية متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي مدعومة من صندوق الاستثمارات العامة. ويقع مقرها الرئيسي في الرياض، وتطمح هيوماين لأن تصبح واحدة من أفضل شركات الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2030. ومع خطط استثمارية تتجاوز 100 مليار دولار أمريكي، ستقوم الشركة بتطوير نماذج أساسية، وبنية تحتية سيادية للذكاء الاصطناعي، وإقامة شراكات عالمية، مما يضع المملكة في موقع ريادي في الابتكار الأخلاقي والفعّال في مجال الذكاء الاصطناعي.
وعلى عكس الشركات التقليدية، تم تصميم هيوماين لتكون منصة تعاونية – تبني نماذج لغوية كبيرة باللغة العربية، وتعزز السيادة الرقمية، وتُسهم في النظام البيئي العالمي للذكاء الاصطناعي. يمثل إطلاقها محطة تحوّل كبيرة في رحلة المملكة في مجال الذكاء الاصطناعي، ويعكس رؤية سمو ولي العهد للانتقال من دور المُتبني إلى الريادة والابتكار في هذا المجال.
وفي خضم السباق العالمي لتسخير الذكاء الاصطناعي، عادةً ما تُسلّط الأضواء على الأسواق المتقدمة مثل الولايات المتحدة. ومع ذلك، برزت المملكة العربية السعودية خلال العامين الماضيين كقصة نجاح استثنائية. فوسط تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية شاملة، رسخت المملكة مكانتها كمنافس جريء في تبني الذكاء الاصطناعي، وجذبت الاهتمام العالمي لتغيير الصورة النمطية حول الابتكار في الشرق الأوسط.
ولا تكتفي المملكة بتجربة الذكاء الاصطناعي، بل تدمجه في جوهر استراتيجيتها للتحول الوطني. فقد خصص صندوق الاستثمارات العامة 40 مليار دولار أمريكي لدعم الابتكار وتطوير بنية تحتية قوية للبيانات ورعاية الشركات الناشئة. بالإضافة إلى ذلك، يهدف هذا المشروع بقيمة “تجاوز” بقيمة 100 مليار دولار إلى بناء منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي، من مراكز البيانات المتقدمة إلى برامج تدريب القوى العاملة. وتعكس هذه الاستثمارات طموح المملكة لتأسيس قدرات عالمية المستوى وترسيخ موقعها كقائد عالمي في التنمية المدفوعة بالتكنولوجيا.
واستنادًا إلى رؤية السعودية 2030 الطموحة، تسعى المملكة لبناء مستقبل يجمع بين الابتكار والطموح والهدف، من خلال تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط. ويُعد مشروع “نيوم” بمجتمعاته الذكية برؤية مستقبلية تدمج الذكاء الاصطناعي والروبوتات والتحليلات المتقدمة، مثالاً رمزياً على هذا التوجه. كما أن إطلاق “علام” اللذي تم دمجه في هيوماين ، النموذج اللغوي العربي الكبير المطوّرفي بداياته من قبل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، يعزز خدمات الذكاء الاصطناعي باللغة العربية ويدفع عجلة الابتكار في قطاعات متنوعة كالتعليم والرعاية الصحية.
ثورة متعددة الأبعاد
في المملكة، لا يقتصر دمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة والصناعات على تحقيق الطموحات، بل يتعداها لإحداث فرق حقيقي في حياة الناس. فحوالي 39% من الجهات الحكومية تستخدم الذكاء الاصطناعي أو تختبره، و81% من هذه الجهات أبلغت عن تحسن ملحوظ في تقديم الخدمات. من إدارة القوى العاملة إلى التخطيط العمراني والتعليم وأنظمة المرور، يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الحياة اليومية والحكم من خلال تحسين الأداء وتحقيق فوائد ملموسة للمواطنين.
وهذا ليس بجديد فخلاص الجائحة الماضية ، حرصت وزارة التعليم السعودية على استمرارية التعليم من خلال أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي لا تزال تعزز نتائج التعلم من خلال تجارب مخصصة للطلاب والمعلمين، مما يمهّد لإعداد الجيل القادم لاقتصاد تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وفي مجال التنمية الحضرية، تستخدم وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالطلب على السكن، ومراقبة النمو العمراني، وتحسين توزيع الموارد. ومن خلال تحليل البيانات السكانية واتجاهات الهجرة، تضمن الوزارة تطوير مشاريع مدروسة ومدعومة بالبنية التحتية الأساسية كالمستشفيات والمدارس والنقل.
وفي إدارة المرور، ساهمت تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة كالمسح الحراري والطائرات بدون طيار والأنظمة التكيفية في مراقبة وتحسين حركة المرور، والحد من الازدحام، وتحسين السلامة، خاصة خلال موسم الحج. وقد أدت هذه التقنيات إلى تقليل أوقات الذروة في المدن الكبرى.
أما في سوق العمل، فإن منصات مثل “مساند” المدعومة من وزارة الموارد البشرية، تضمن الامتثال لأنظمة العمل، وتساعد على معالجة تحديات البطالة وعدم تطابق المهارات عبر تحليل الاتجاهات وتفعيل المشاركة الفاعلة في سوق العمل. كما تستخدم وزارة العدل تقنيات الذكاء الاصطناعي لأتمتة العمليات القانونية، مما يخفف الأعباء الإدارية ويُحسن وصول المواطنين للخدمات العدلية.
ما يُميز النهج السعودي هو تكامله الكامل عبر جميع الجهات الحكومية. وتنبع هذه الاستخدامات من التزام المملكة بتحقيق هدفين أساسيين ضمن رؤية 2030: بناء مجتمع حيوي وتحقيق اقتصاد مزدهر من خلال تنويع مصادر الدخل وتحسين جودة الحياة.
على القطاع الخاص أن يحذو نفس الحذو
رغم أن القطاع العام قد مهد الطريق لاعتماد الذكاء الاصطناعي، إلا أن القطاع الخاص يحمل المفتاح الحقيقي لتحقيق إمكاناته الكاملة. ومع توقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنمو كبير مدفوع بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 29%، فإن دور القطاع الخاص في تسريع هذا النمو لا يمكن تجاهله. ومع ذلك، تُظهر مستويات الجاهزية الحالية وجود فجوة بين الطموح والتنفيذ.
أظهر تقرير حديث أجرته اي بي ام أن ٧٦% من الرؤساء التنفيذيين في السعودية يسرّعون تبني الذكاء الاصطناعي، رغم شعور بعض مؤسساتهم بعدم الراحة تجاه هذا التغيير السريع. ورغم جهود كيانات كـ “سدايا” و”كاوست” في بناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، إلا أن تقرير “مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي 2024” من سيسكو يشير إلى أن نسب الجاهزية في القطاع الخاص لا تزال منخفضة.
تكمن المخاطر في التأخر عن تبني الذكاء الاصطناعي في انخفاض الكفاءة، وتراجع الحصة السوقية، وعدم القدرة على تلبية توقعات المستهلكين المتطلعين للتكنولوجيا. فالشركات التي تتباطأ في التكيف مع هذا التوجه العالمي ستكافح للبقاء تنافسية.
ولا تقتصر الرهانات على الريادة السوقية، بل تمتد لتشمل قيادة الابتكار الذي يخدم الشركات والمجتمع. يمتلك القطاع الخاص القدرة على تعظيم أثر الذكاء الاصطناعي عبر دعم منظومات الشركات الناشئة وتسريع تطوير المنتجات ودمج حلول الذكاء الاصطناعي في العمليات التشغيلية.
صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي
يقف القطاع الخاص اليوم عند مفترق طرق بين الفرصة والمسؤولية. والطريق واضح: التماهي مع المبادرات الوطنية، واحتضان الابتكار، والمشاركة النشطة في بناء منظومة الذكاء الاصطناعي في المملكة.
ولا يكفي الطموح وحده، بل يجب اتخاذ خطوات استراتيجية ذات أثر ملموس. التعاون مع الحكومة يمثل نقطة انطلاق مهمة، إذ تتيح مبادرات مثل صندوق PIF بقيمة 40 مليار دولار ومشروع “تجاوز” فرصًا للمشاركة في الابتكار. ويمكن للشركات الاستفادة من البنية التحتية والأدوات الحكومية، والانخراط في برامج التدريب لسد الفجوات، لاسيما في معايير خصوصية البيانات العالمية.
أما على صعيد التنفيذ، فيجب على الشركات دمج الذكاء الاصطناعي بذكاء داخل عملياتها. من الصيانة التنبؤية في قطاع الطاقة، إلى اكتشاف الاحتيال المالي، وتحسين مسارات الشحن، تقدم هذه الحلول نتائج قابلة للقياس تزيد من الكفاءة وتقلل التكاليف.
كما يجب تبني نهج مسؤول، يوازن بين الابتكار والمساءلة. يتطلب ذلك الالتزام بقانون حماية البيانات الشخصية السعودي، وإطار تبني الذكاء الاصطناعي الذي يضمن الشفافية والعدالة والخصوصية. ومن خلال هذا التوازن، يمكن للشركات بناء الثقة والمساهمة في نمو مستدام وشامل بما يتماشى مع أهداف رؤية 2030.