أولي هانسن، رئيس استراتيجية السلع في ساكسو بنك
من المتوقع أن تعيد مجموعة من العوامل المتشابكة تشكيل أسواق السلع الأساسية خلال السنوات المقبلة، من بينها الارتفاع في الطلب على الطاقة اللازمة للتبريد ومراكز البيانات، والتحول نحو مصادر الطاقة النظيفة، إلى جانب الجهود الرامية إلى التخفيف من آثار تغير المناخ. وتشهد الحكومات والشركات في مختلف أنحاء العالم حالياً استثمارات ضخمة في البنى التحتية للطاقة المتجددة، والمركبات الكهربائية، والتقنيات عالية الكفاءة في استخدام الطاقة، ما يؤدي إلى زيادة الطلب على المعادن الأساسية لهذا التحول، ومنها:
- النحاس: عنصر أساسي في شبكات الكهرباء والمركبات الكهربائية وتخزين الطاقة في البطاريات.
- الألمنيوم: يُستخدم على نطاق واسع في وسائل النقل الخفيفة وهياكل الألواح الشمسية.
- الليثيوم والكوبالت والنيكل: عناصر حيوية في تقنيات البطاريات.
- الفضة والعناصر الأرضية النادرة: ضرورية لتقنيات الألواح الشمسية والتوربينات الهوائية والإلكترونيات المتقدمة.
- البلاتين: يُستخدم في خلايا وقود الهيدروجين، والمحلّلات الكهربائية لإنتاج الهيدروجين، والمحولات الحفازة، وتقنيات البطاريات المتقدمة.
في الوقت ذاته، تؤدي درجات الحرارة العالمية المتصاعدة إلى زيادة الطلب على تقنيات التبريد مثل أجهزة التكييف، وهو ما سلّطت عليه الضوء الموجة الحارّة الأخيرة في نصف الكرة الجنوبي. ويتزامن هذا مع تنامي الطلب على الطاقة من مراكز البيانات التي تدير تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، إلى جانب كهربة القطاعات الصناعية، مما يؤدي إلى زيادة إضافية في استهلاك الكهرباء.
وفي هذا السياق، يبرز النحاس بوصفه مادة لا غنى عنها بفضل موصليته الكهربائية العالية، ما يجعله مثالياً في الأسلاك والمكونات الضرورية لنقل الطاقة وتوزيعها بكفاءة—وهي مسألة تزداد أهمية في ظل دمج مصادر الطاقة المتجددة في الشبكات.
لكن في الوقت الراهن، تشهد الأسواق المالية العالمية حالة من الاضطراب بفعل السياسات التجارية العدوانية التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي أثارت تهديدات بردود فعل مماثلة وموجة بيع واسعة النطاق، وسط مخاوف من أن تؤدي حرب تجارية عالمية بهذا الحجم والزخم إلى تباطؤ اقتصادي—وخاصة في الولايات المتحدة، حيث ارتفعت توقعات التضخم بشكل ملحوظ، وشهدت ثقة المستهلكين والشركات تراجعاً حاداً في الأشهر الأخيرة.
وقد انعكست هذه المخاوف بوضوح في نسبة النحاس إلى الذهب، التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ عدة سنوات. فقد اندفع المستثمرون إلى الذهب كمخزن للقيمة وسط تنامي القلق بشأن النمو الاقتصادي والتضخم والاستقرار المالي، مما دفع بأسعاره إلى الارتفاع.
وفي المقابل، ورغم التوقعات الإيجابية طويلة الأجل للنحاس، فقد واجه صعوبات في ظل مخاطر “الركود التضخمي” في بعض المناطق. ورغم استمرار قوة الطلب المرتبط بالتحول الطاقي، فإنه لا يكفي لتعويض هذه المخاوف بالكامل. ومن المرجح أن تتعافى هذه النسبة مستقبلاً، غير أن ذلك لن يحدث إلا بعد التوصل إلى حلول للتحديات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى التي يواجهها العالم حالياً.
تراجع نسبة النحاس إلى الذهب إلى أدنى مستوى لها منذ عقود
وبالعودة إلى الوضع الراهن في سوق النحاس، لا تزال المخاوف من فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات النحاس من أبرز العوامل التي تهيمن على المشهد في الأشهر الأخيرة. فمنذ يناير، سجل عقد النحاس عالي الجودة المتداول في نيويورك ارتفاعاً كبيراً مقارنة بالسعر المرجعي العالمي المحدد في بورصة لندن للمعادن (LME)، في ظل محاولة المتداولين استباق مستوى الرسوم الجمركية المتوقع، ليصل الفارق السعري حالياً إلى ما بين 13% و15%.
وبشكل مباشر، فإن هذا الفارق السعري في نيويورك لا يُعزى إلى قوة الطلب من المستخدمين النهائيين، بل إلى التحولات الكبيرة في المخزونات باتجاه السوق الأميركية. وبينما يحقق بعض المتداولين أرباحاً استثنائية من خلال توريد النحاس وشحنه إلى الولايات المتحدة، فإن هذه التدفقات—التي يُتوقع أن تبقى في الولايات المتحدة حتى يتم استهلاكها—ستفاقم من حدة شح المعروض في السوق العالمية خلال النصف الثاني من عام 2025.
وقدّرت شركة غولدمان ساكس في تقرير حديث أن ما بين 45% و60% من المخزونات العالمية المعلنة من النحاس قد ينتهي بها المطاف في السوق الأميركية بحلول الربع الثالث من عام 2025، في حين لا تمثل الولايات المتحدة سوى 6% من الطلب العالمي على النحاس المكرر، وهو ما قد يترك بقية العالم يعاني من نقص حاد في هذا المعدن الحيوي للتحول الطاقي.
فجوة واسعة بين أسعار النحاس في بورصتي “كوميكس” و”لندن” بسبب الرسوم الجمركية
وقد أدى التهافت الأخير على شحن النحاس إلى الولايات المتحدة إلى تراجع حاد في المخزونات الموجودة في المستودعات التابعة للبورصات المستقبلية في لندن، وبشكل لافت أيضاً في شنغهاي. فقد انخفضت المخزونات في الصين بنحو 55 ألف طن الأسبوع الماضي، في أكبر تراجع أسبوعي مسجّل على الإطلاق، فيما سجّلت بورصة لندن تراجعاً قدره 10 آلاف طن، لم تعوضه سوى زيادة طفيفة قدرها 8 آلاف طن في بورصة “كوميكس” الأميركية.
ولا يُعزى هذا التراجع بالكامل إلى استمرار تدفقات الشحن نحو الولايات المتحدة تحسّباً لإعلان الرسوم، إذ لا يزال هناك المزيد من الشحنات في طريقها حالياً إلى المستودعات الأميركية، ومن المتوقع وصولها خلال الأسابيع المقبلة.
وفي هذا السياق، نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن شركة ميركوريا لتجارة السلع الأساسية، تحذيرها من احتمال انخفاض المخزونات الصينية من النحاس إلى مستويات قريبة من الصفر في غضون أشهر قليلة، مشيرة إلى أن السوق تمرّ حالياً بـ”واحدة من أكبر صدمات الشح في تاريخها”، على خلفية المخاوف من الرسوم الأميركية.
وفي الوقت ذاته، أفاد متداولون في الصين بوجود ارتفاع ملحوظ في الطلب المحلي، ما أدى إلى ارتفاع العلاوة السعرية للنحاس المستورد. وهذا يشير إلى أنه، وعلى الرغم من المخاوف المتعلقة بالنمو الاقتصادي، فإن الدعم السعري للنحاس سيظل قائماً على الأرجح في المدى القصير، بل ومن المرجح أن يتعزز على المدى الطويل، مع استمرار موجة الكهربة العالمية التي تعزز الطلب على النحاس بوتيرة متصاعدة.
هبوط حاد في مخزونات النحاس في شنغهاي ولندن، يقابله ارتفاع طفيف في نيويورك
وفي تقرير صادر عن منتدى الطاقة الدولي (IEF) في مايو الماضي، ورد أن تحقيق أهداف الكهربة العالمية يتطلب استخراج كمية من النحاس تزيد بنسبة 115% عما تم تعدينه طوال التاريخ البشري حتى الآن.
وقد بلغت نفقات الاستكشاف التي تنفذها شركات التعدين ذروتها خلال عقد كامل في عام 2024؛ غير أن القطاع لا يزال يواجه قيوداً هيكلية على مستوى الإمدادات على المدى الطويل، بسبب ندرة الاكتشافات الجديدة، وطول الفترات اللازمة لتطوير المناجم، وتراجع جودة الخامات، وارتفاع متوسط تكاليف الاكتشاف إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل عشرين عاماً.
وفي حين سجّلت شركات تعدين المعادن النفيسة—وخاصة الذهب—مكاسب سنوية قوية (على سبيل المثال، ارتفع صندوق فان إك غولد ماينرز بنسبة 41%، وهو صندوق يتتبع سلة من أبرز شركات التعدين)، فإن شركات تعدين النحاس شهدت أداءً أكثر تواضعاً بسبب التحديات المذكورة. ومع ذلك، وبالنظر إلى استمرار قوة الطلب والأسعار رغم المخاوف المحيطة بالنمو العالمي، فإن هذا القطاع قد يستحق اهتماماً متجدداً—أو على الأقل، أن يوضع على رادار المستثمرين المحتملين.
ملاحظة: تم ذكر صناديق الاستثمار وشركات التعدين لأغراض توضيحية فقط، ولا يُعد ذلك توصية استثمارية.