مقال بقلم حنان صقر، مديرة إدارية وشريكة في EMIR
في ظلّ المخاطر المناخية المتزايدة، لم تعد الممارسات المستدامة مجرّد خيار، بل ضرورة من ضروريات العمل. وفيما تبرز بعض العقبات الانتقالية في وجه الشركات الراغبة في التحوّل إلى اقتصاد “صافي الصفر” أو الحياد الكربوني، من المؤكّد أنّ تبنّي هذه الممارسات في وقت مبكر يسرّع توليد القيمة ويسمح بالتفوّق على المنافسين. وحسبما أشارت أحدث التوقّعات، قد يبلغ الطلب على المنتجات والخدمات منخفضة الكربون في العام 2030 ما بين 9 و12 تريليون دولار أميركي، ما يساهم في نشوء اقتصادات خضراء وفتح آفاق أعمال جديدة.
وفي مؤتمر الأطراف COP28، تمكّنت الإمارات العربية المتحدة من التوصّل إلى إجماع تاريخي في دبي لتعزيز العمل المناخي وذلك استجابة للتقييم العالمي. فعلى سبيل المثال، تم تخصيص أكثر من 85 مليار دولار أميركي لمبادرات المناخ كما واتّخاذ خطوات جريئة لتجاوز “أجندة العمل” التي وضعتها الجهات الفاعلة غير الحكومية، بما فيها القطاع الخاص. وتسلّطت الأنظار للمرّة الأولى على القطاع الخاص، وذلك انطلاقًا من إيمان حكّام دولة الإمارات ورئاسة المؤتمر القوي بالدور الجوهري الذي يؤديه هذا القطاع في دفع عجلة التقدّم نحو اقتصاد مستدام وشامل ومرن.
يُذكر أنّ دولة الإمارات في صدد التحوّل إلى اقتصاد ذي صافي انبعاثات صفري، وهي أوّل دولة في المنطقة توقّع على اتفاق باريس للمناخ. وفي الواقع، أعلنت الإمارات بشكل استباقي عن تحديث بيانات مساهماتها المحدّدة وطنيًا للمرة الثالثة، وذلك بفضل التزامها بخفض الانبعاثات بنسبة 40% بحلول العام 2030 (23.5% -31% -40%). وقد أسفر مؤتمر الأطراف COP28 في الإمارات عن إجماع في آراء المشاركين، ما سيشكل بالتالي نقطة مرجعية جديدة لتوجيه التنفيذ في المستقبل.
روّاد الاستدامة
في أعقاب الأزمة المالية في العامين 2007 و2008، اتّخذت الشركات الناجحة تدابير عديدة ساعدتها على اكتساب ميزة تحقيق الأرباح، بما في ذلك خفض النفقات بشكل استباقي وتحديد فرص النمو. لذلك، في حال راودتكم أي شكوك تجاه التحوّل نحو اقتصاد “صافي الصفر”، أقدّم لكم بعض التوصيات القوية التي تجمع أبرز المجالات الرئيسية التي يركّز عليها روّاد الأعمال المستدامة.
وفي حين أنّ القيود والعقبات تختلف باختلاف البلد والقطاع وحجم الشركة، يمكن تطبيق هذه التدابير عالميًا عبر مختلف القطاعات والمناطق، حيث حقّقت نجاحًا مثبتًا في العديد من المؤسسات حول العالم.
- توليد القيمة بناءً على الرؤية والطموح
وهي إحدى المزايا الرئيسية للشركات التي كانت من أوائل المستثمرين في العروض منخفضة الكربون، فتمكّنت بذلك من توسيع قدراتها الإنتاجية قبل دخول منافسين آخرين إلى السوق.
- خفض تكلفة البضائع المباعة من خلال الحد من البصمة الكربونية والتكاليف
لا يمكن المساومة حاليًا بين خفض التكاليف أو خفض الكربون، إذ يحقّق الاثنان معًا فوائد مزدوجة تشمل تحسين كفاءة استهلاك الطاقة واستخدام المواد الخام والمواد الأوّلية منخفضة الكربون. وفي ضوء ارتفاع أسعار الطاقة والتوترات الجيوسياسية التي تؤثر على أجندات أمن الطاقة، لا يمكن الاستخفاف بأهمية ترشيد كفاءة استهلاك الطاقة وتحسين هامش الربح، وبات من الضروري أن تولي الشركات الأولوية لهذه المبادرات الآن أكثر من أي وقت مضى.
- تغيير اللوائح التنظيمية
تُعد زيادة الحصة السوقية في الأسواق التنافسية مع التركيز على عروض المنتجات منخفضة الكربون والخالية من الكربون أمرًا بالغ الأهمية لتلبية تفضيلات المستهلكين القوية. ومن بين التطوّرات المهمة التي ينبغي أخذها في الاعتبار تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون في أوروبا التي انتقلت إلى مرحلة جديدة في أكتوبر الماضي. وتفرض هذه الآلية حدًا لانبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن منتج مستورد واحد، ما يتيح للمصدّرين الممتثلين للوائح البيئية فرصة توسيع حصتهم في السوق فيما تسبّب الخسارة لغير الممتثلين. علاوةً على ذلك، أصدرت المفوضية الأوروبية في يناير 2024 إعلانًا مهمًا يقضي بالتخلص التدريجي من الغازات المفلورة والاستعاضة عنها بالبدائل الصديقة للبيئة.
- الأعمال التجارية الخضراء الجديدة
بالاعتماد على الأبحاث التي أجريناها، من المتوقّع أن تبلغ قيمة الطلب على الأعمال المستدامة وحلول تقنيات المناخ حوالى 12 تريليون دولار أميركي سنويًا بحلول العام 2030. وعليه، يمكن للراغبين في الاستثمار في هذا المجال الاستفادة من التقنيات الموجودة بالفعل مثل بطاريات السيارات الكهربائية والتقنيات الزراعية وحلول كفاءة استهلاك الطاقة والطاقة المتجدّدة وإعادة تدوير النفايات.
- الوصول إلى رأس المال التمويلي
يعمد نظام التمويل اليوم إلى ربط أهداف صافي الانبعاثات الصفري بالالتزامات والحلول التمويلية المبتكرة، ومن الجدير بالذكر أن الممولين هم قادة جهود تقليل البصمة الكربونية وليس المهندسين.
ففي إطار فعاليات مؤتمر الأطراف COP28، أعربت العديد من الحكومات وبنوك التنمية المتعدّدة الأطراف والقطاعات الخاصة والمؤسسات الخيرية عن عزمها تمويل الجهود المناخية، وقد تمّ جمع 85 مليار دولار أميركي لتمكين هذه الجهود. وعلى الرغم من الفجوة التمويلية البالغة قيمتها 200 تريليون دولار أميركي للتحكّم بالاحتباس الحراري وإبعاده عن بلوغ درجتين مئويتين بحلول العام 2050، نشهد اليوم زيادة في الأدوات المالية المبتكرة مثل أرصدة الكربون ومنتجات التأمين والتمويل المختلط ومقايضات الديون وسندات البيئة والمجتمع والحوكمة. وتنصبّ جميع الجهود حاليًا على جذب الاستثمارات من القطاع الخاص لتنفيذ المبادرات المناخية.
أمّا على صعيد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فتُقدّر الفجوة التمويلية التي تعرقل جهود تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة بنحو 230 مليار دولار أميركي سنويًا. ومع ذلك، تعمل المؤسسات المالية على تعزيز التزاماتها المالية المستدامة بشكل تدريجي، ما يوفر فرصة كبيرة للشركات لبدء رحلتها الانتقالية والاستفادة من فرص التمويل هذه.
وفي إطار مساعينا نحو بلورة مستقبل تقوم فيه التنمية الاقتصادية على ركائز الاستدامة، من المهم أن نعترف بأهمية التعاون والشراكة بين جميع قطاعات المجتمع، بما يشمل الجهات الحكومية والقطاعين العام والخاص والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية والأفراد. فتوحيد الجهود يساهم بشكل كبير في تطوير منظومة مستدامة تعود بالفائدة على جميع أصحاب المصلحة.
ومن خلال مواءمة الجهود والموارد في سبيل تحقيق هدف مشترك، يمكن أن نضمن كوكبًا مزدهرًا وصالحًا للأجيال القادمة. ولأنّ التعاون والشراكات هي شروط محورية لتحقيق هذه الرؤية وإرساء الأساس لمستقبل مستدام للجميع، يجب أن نعمل يدًا بيد لتحقيق هدف مشترك يتمثل في خلق عالم أفضل وأكثر استدامة.