الرياض – خاص
د. عبدالرحمن بن أحمد حريري، أستاذ مساعد في ريادة الأعمال، كلية الأمير محمد بن سلمان للإدارة وريادة الأعمال
أ.د. عدنان معلاوي، بروفسور في ريادة الأعمال،كلية الأمير محمد بن سلمان للإدارة وريادة الأعمال
يمر المشهد الاستثماري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتحولات كبيرة، نظرًا للاهتمام المتزايد بالمشاريع الريادية الناشئة. في قلب هذا التطور والتحول المتسارع، برزت المملكة العربية السعودية كدولة رائدة في الاستثمارات الجريئة وإطلاق المشاريع الريادية ذات الأثر الإيجابي. ففي العام الميلادي المنصرم ٢٠٢٣م، حققت المملكة العربية السعودية إنجازًا جديدًا من خلال تحقيقها المركز الأول في حجم الاستثمارات الجريئة من بين دول الشرق الأوسط، حيث بلغ حجم الاستثمارات ١.٣٨٣ مليار دولار، وذلك وفقًا للتقارير الصادرة من الشركة السعودية للاستثمار الجريء (SVC). هذا النمو الكبير في حجم الاستثمارات، مقارنة بالعام الماضي (١.٠٤ مليار دولار في ٢٠٢٢م)، يؤكد الدور القيادي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في تطوير ودعم منظومة ريادة الأعمال في المنطقة.
هذا ويعتبر التطور الإيجابي السريع في مشهد ريادة الأعمال والاستثمار في المملكة انعكاسًا مباشرًا للمبادرات الاستراتيجية التي تعمل عليها المملكة في إطار رؤية ٢٠٣٠، والتي من مستهدفاتها رعاية ثقافة الابتكار، تنمية الاقتصاد، وتنويع مصادر الدخل.
مبادرات ريادة الأعمال
يستند مشهد الابتكار وريادة الأعمال المزدهر في المملكة على مجموعة من المبادرات الإستراتيجية التي تدعمها الاستثمارات على اختلاف أنواعها من أعلى المستويات بهدف تحفيز نمو الشركات الناشئة والتنويع الاقتصادي. من هذه المبادرات:
-
برامج “مسك الريادة والابتكار” والتي تهدف لتثقيف ومساعدة رواد الأعمال الناشئين من خلال البرامج، الشراكات العالمية، الموارد، وتوفير بيئة محفزة للابتكار والابداع.
-
“الشركات المليارية” وهي مبادرة حكومية تعنى بدعم وتمكين الشركات التقنية متسارعة النمو، لمساعدتها في الوصول إلى مرحلة اليونيكورن، وذلك من خلال تقديم مجموعة من البرامج والخدمات ذات القيمة.
-
تركز “مبادرة مستقبل الاستثمار” التابعة لصندوق الاستثمارات العامة (PIF)، على جذب الاستثمارات الخارجية وإعادة توجيه الاستثمارات نحو القطاعات غير النفطية المهمة لترجمة مستهدفات “رؤية 2030″، ليكون ذلك بمثابة تحوّل محوري نحو اقتصاد قائم على الابتكار.
-
توفر الحاضنات ومسرعات الأعمال الجامعية، مثل مسرّعة “تقدّم” التابعة لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، برامج تدريبية عالية الجودة بالإضافة إلى توفير الارشاد والدعم المناسب، لتمكين الشركات الناشئة من ترجمة أفكارها إلى واقع، وطرح خدماتها ومنتجاتها في السوق.
-
مبادرة “رواد التقنية“، إحدى مبادرات وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، تعمل على ربط رواد الأعمال الرقميين بالأدوات المناسبة، توفير الارشاد، والربط بالمستثمرين، لتعزيز الاقتصاد الرقمي.
-
مبادرة “Next Era“، أحد مبادرات البرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات (NTDP)، والتي تهدف إلى تشجيع ودعم الشركات الناشئة في تطوير حلول ومنتجات ابتكارية مبنية على البحث والتطوير، من خلال توفير الدعم المالي المناسب لتغطية تكاليف البحث والتطوير من أجل الخروج بمنتجات وحلول ابتكارية في المنطقة وتوطين التقنية.
وتعتبر المساهمات المقدمة من الصناديق والجهات الاستثمارية مكوّناً جوهرياً من هذه المنظومة، ومنها شركة صندوق الصناديق “جدا”، إحدى شركات صندوق الاستثمارات العامة، والشركة السعودية للاستثمار الجريء. حيث لعبت شركة “جدا” دوراً فاعلاً في تحفيز المشهد الاستثماري وتنويعه، وتجاوزت التزاماتها 4 مليارات ريال سعودي لصناديق رأس المال الاستثماري المحلية والإقليمية. وأسهم هذا التدفق المالي في إحداث زيادة إيجابية ملحوظة في أنشطة تمويل الشركات الناشئة، حيث شهدت المملكة عاماً قياسياً في نشاط رأس المال الجريء، إذ ارتفعت الاستثمارات إلى أكثر من 500 مليون دولار في الآونة الأخيرة، ليكون ذلك انعكاساً للبيئة الديناميكية الناضجة والمتسارعة النمو للشركات الناشئة.
القطاعات الحديثة: الابتكارات في قطاع الألعاب والذكاء الاصطناعي
تشهد منظومة ريادة الأعمال في المملكة العربية السعودية ابتكارات جذرية وتحولية خصوصًا في قطاعيّ الألعاب والذكاء الاصطناعي (Ai)، ما يؤكد التزام المملكة نحو التحوّل إلى مركز عالمي للتقنية والتحول الرقمي.
ففي قطاع الألعاب، سجّلت المملكة خطوات كبيرة من خلال إنشاء صندوقين للاستثمار الجريء بقيمة 120 مليون دولار، يهدفان إلى دعم صناع الألعاب والرياضات الإلكترونية. ويمثل الصندوقان اللذان تديرهما “IMPACT46” و “ميراك كابيتال”، جانباً من مبادرة استراتيجية لتعزيز تطوير المحتوى المحلي وتحفيز النمو على مستوى القطاع.
كما تجدر الإشارة إلى أنه ضمن فعاليات مؤتمر ليب (LEAP 2024) في الرياض، أعلن صندوق التنمية الوطني بالتعاون مع بنك التنمية الاجتماعية، عن توقيع اتفاقيتين لتأسيس صندوقين للاستثمار الجريء في قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية، بقيمة إجمالية قدرها 450 مليون ريال (120 مليون دولار). وفي مطلع أبريل من العام الماضي 2023، أبرمت مجموعة “سافي غيمز” المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة السعودية، اتفاقية للاستحواذ على شركة الألعاب الإلكترونية “سكوبلي” (Scopely) الأمريكية مقابل 4.9 مليار دولار.
هذا وتحقق المملكة العربية السعودية تقدماً ملحوظاً في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال إطلاقها العديد من المبادرات مثل مسرعة الذكاء الاصطناعي التوليدي “GAIA” بدعم وتمكين من الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي “سدايا” والبرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات (NTDP)، والذي خصص 160 مليون دولار أمريكي لدعم 120 شركة ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ولا يقتصر الأثر الإيجابي لابتكارات الألعاب والذكاء الاصطناعي على التنويع الاقتصادي، بل إنها تدعم أيضاً تسريع تقدم المملكة في إطار مستهدفات رؤية 2030، لمساعدتها في تحقيق ريادة تقنية عالمية في عصر التقنية.
الاستحواذات ومؤشرات نضج المنظومة الريادية
يعُد استحواذ شركة الصحة النفسية السعودية (لبّيه) المالكة لتطبيق يحمل نفس الاسم، على تطبيق (نفس) للصحة النفسية الإماراتي، خطوة استراتيجية فائقة الأهمية لفتح آفاق رحبة أمام علامتها التجارية، ومساعدتها على دخول أسواق جديدة، لتوسيع نطاق وصولها إلى شرائح أوسع من العملاء لتعزيز خدماتها. وبالمثل، يُشير استحواذ “هايبر باي” (HyperPay)، بوابة الدفع الإلكترونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على شركة التقنية المالية السعودية “سند كاش” المتخصصة في حلول الإصدار الآمن لبطاقات الأعمال وإدارة النفقات، إلى توحيد قطاع التكنولوجيا المالية وطموح الشركة نفسها لتنويع مجموعة منتجاتها ضمن مشهد الدفع الرقمي سريع التطور في المملكة.
وتسلط عمليات الاستحواذ الاستراتيجية بين الشركات الناشئة المحلية الضوء على التحول نحو سوق أكثر نضجاً يتّسم بالاندماج والتوسع والتركيز بشكل أكبر على توسيع نطاق الحلول المبتكرة لتلبية الاحتياجات المتنوعة للمستهلكين. ومن شأن هذا النشاط داخل منظومة ريادة الأعمال السعودية أن يسهم في تعزيز ديناميكية ونمو السوق عموماً، كما يبرز مكانة المملكة الصاعدة على الساحة العالمية للابتكار وريادة الأعمال.
ما وراء التقنية: تبنّي استراتيجية شاملة للابتكار والتطوير
بفضل توجيهات صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تُظهر الرحلة التوحلية التي تشهدها المملكة التزامها لتصبح مركزاً عالمياً للتكنولوجيا، إلى جانب تعزيز النمو الشامل في مختلف القطاعات. ويوضح إنشاء شركة “آلات”، وعلاقاتها التعاونية الطموحة، الاستراتيجية الأوسع التي تنتهجها المملكة للتنويع خارج نطاق التقنيات التقليدية، واحتضان التصنيع المستدام والصناعات المتقدمة. وتمثل شركة “آلات”، إحدى شركات صندوق الاستثمارات العامة، قفزة كبيرة نحو تصنيع التقنيات المستدامة، مع التركيز على التقنيات المتقدمة والإلكترونيات وغيرها. وتركز هذه الشركة على تصنيع المنتجات عبر مجموعة واسعة من وحدات الأعمال الإستراتيجية، مثل الصناعات المتقدمة، أشباه الموصلات، الأجهزة الذكية، والأجهزة الصحية الذكية. وتتوافق هذه المبادرة مع أحد مستهدفات رؤية 2030 المتمثل في التنويع الاقتصادي والنمو المستدام، لتوفير 39,000 فرصة عمل مباشرة، والمساهمة بمبلغ 9.3 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بحلول العام 2030. وتوصلت هذه الشركة إلى شراكات عالمية استراتيجية مع عمالقة الصناعة، مثل مجموعة “سوفت بنك” وشركة “كارير” والشـــركة الســـعودية للتحكـــم التقنـــي والأمني الشامل (تحكم)، و “داهوا للتكنولوجيا”، لتؤكد على مهمتها المتمثلة في التصنيع الخالي من الانبعاثات الكربونية. ويمتد تركيزها إلى ما هو أبعد من تطوير التقنيات واستخداماتها، حيث تهدف إلى إنشاء منظومة شاملة تدعم الابتكار، وتعمل على تنمية المواهب وتوطين المعرفة والخبرة.