معالي عبد العزيز الغرير، رئيس مجلس أمناء مؤسسة عبد الله الغرير للتعليم
يُعد الإنفاق على التعليم أولوية وطنية في الدول التي تسعى لبناء اقتصاد سليم، إذ لا تقتصر مساهمة الشركات على توفير البنية التحتية ورأس المال، لا سيما في اقتصاد المعرفة الذي يعتمد بشكل متزايد على التطورات الرقمية. ويتطلب إرساء اقتصاد يواكب متطلبات المستقبل توفير رأس مال بشري وفكري واجتماعي، ومجموعة مناسبة من المواهب التي تلعب دوراً مهماً في النمو الاقتصادي. وأدت جائحة كورونا (كوفيد-19) إلى تفاقم التحديات الكبيرة التي يواجهها نظام التعليم، حيث تفيد بيانات صادرة عن منظمة اليونيسف بانقطاع 15 مليون طفل عن الدراسة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل بداية الجائحة، لكن الرقم وصل إلى 110 ملايين مع الانخفاض الكبير في الإنفاق المحلي على التعليم في 20 دولة بالمنطقة في إطار سعيها للتعافي من الأضرار الاقتصادية التي سببتها الأزمة الصحية العالمية.
ويؤدي استمرار الوضع الحالي إلى حرمان نصف الشباب من تعلم المهارات الأساسية في القراءة والرياضيات، وحرمان الملايين من فرص دخول المدارس أو التسبب في انقطاعهم عن التعليم بحلول عام 2030. وأشارت دراسة حديثة تضمنها التقرير العالمي لرصد التعليم حول تقييم التقدم المنجز في مجال التعليم إلى تراجع مبالغ تمويل التعليم إلى أدنى من المستويات المطلوبة. وسلط التقرير الضوء على حاجة الدول منخفضة ومتوسطة الدخل إلى زيادة المبالغ التي تنفقها سنوياً إلى 340 مليار دولار لإنجاز مسار التعليم الثانوي الشامل بحلول عام 2030، حيث يتمثل التحدي الكبير في هذا الإطار في حشد الموارد وتحسين فاعلية التمويل.
ضرورة تغيير طبيعة ممارسات العطاء
تتميز هذه المنطقة بتقاليد راسخة وإرث غني في مجال العطاء، لكن التداعيات التي نجمت عن الأزمة الصحية العالمية تتطلب تحولاً من العطاء الفردي إلى مفهوم العطاء الاستراتيجي من خلال بناء نماذج عطاء جديدة تضمن ترسيخ هذه التقاليد لتلبية الاحتياجات الحالية. ويتمثل التحدي الأساسي اليوم في تعزيز العطاء الاستراتيجي والمؤسسي الذي يكمل العطاءات التقليدية ويعززها، والتي غالباً ما تكون شخصية وطوعية. وإن إضفاء الطابع المؤسسي وتطبيق مبدأ المساءلة على العطاء يتيح لنا تخطيط جهودنا تخطيطاً استراتيجياً ووضع أهداف محددة تقود إلى صنع تأثير أفضل وأكثر قابلية للقياس، حيث يمكن لاستراتيجية عطاء فعالة أن تشير إلى توقعات أدق حول الجهود المبذولة وجدولها الزمني وتكلفتها، مما يفسح المجال أمام تطبيق المساءلة الشفافة التي تجعل جهود العطاء أكثر استدامة.
دور الشراكات كوسيلة للعطاء
يتطلب حشد التمويل بطرق مبتكرة في مجال التعليم وجود تحول استراتيجي، إضافة إلى التعاون الفعال مع العديد من الأطراف المعنية. وتسمح الشراكة الاستراتيجية للقائمين على أعمال العطاء باستخدام أصولهم لتحقيق أهداف عطاء أوسع نطاقاً، حيث تثمر المشاريع المشتركة، على سبيل المثال، عن مزيد من المبادرات والمشاريع، مما يساهم في إنشاء شبكة واسعة من الشركاء الراغبين في إحداث تغيير مستدام. وتوفر الشراكة طويلة الأمد للممولين فرصة تحويل المشاريع الطموحة إلى مبادرات تتمتع بدعم أكبر وبقاعدة وصول أوسع، حيث يساهم الأداء الفعال للشركاء في تعزيز الالتزام بالمبادرة والحرص على نجاحها، بالإضافة إلى تحقيق الكفاءة الإدارية والمساعدة على توسيع شبكة رأس المال الفكري وآفاق المعرفة عند جميع الأطراف المعنية. ويمكن للشركاء الاستراتيجيين التأكد من أن جهود العطاء تراعي واقع السوق وتستند إلى الأدلة وتحقق أقصى استفادة من أموالهم، وتعتبر هذه الأمور ممارسات تجارية مفيدة في مجال العطاء.
طرح نماذج تمويل مبتكرة لإحداث تأثير إيجابي
يمكن إيجاد طرق مبتكرة ومستدامة للتغلب على التحديات التي يواجهها قطاع التعليم في الدول النامية من خلال رفع مستوى التنسيق وتحقيق تمويل أكثر كفاءة وبناء نماذج جديدة للتمويل، بما في ذلك التمويل المشترك، والتأكيد على دور الأهداف المشتركة واعتماد تقييم مدى تراجع الفجوة الحالية في التعليم كمقياس للنجاح. لذلك يجب علينا إعادة صياغة تصورنا حول تمويل التعليم وتنفيذ نماذج تمويل مبتكرة تقوم على النتائج وتوفر المساءلة وتحدث تأثيراً إيجابياً.
فعلى سبيل المثال، يقدم الصندوق العالمي الإسلامي الخيري، والذي يشرفنا أن نكون الجهة المانحة الأولى له بالشراكة مع البنك الإسلامي للتنمية ومنظمة اليونيسيف، نموذجاً جديداً يتيح له الاستفادة من أعمال العطاء الإسلامية وتوسيع أنشطته بما يتيح له تقديم مساهمات كبيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وزيادة التأثير الذي تحققه التبرعات الفردية. وقد صنع التمويل الذي يقوم به حتى الآن أثراً إيجابياً على أكثر من 25 ألف من الشباب المهمشين في بنغلادش والأردن وباكستان، والذين استفادوا من التدريب التعليمي وتنمية المهارات والخدمات الصحية، بما في ذلك اللقاحات والعلاج الطبي والدعم النفسي والاجتماعي.
ورغم التحديات التي تواجه قطاع التعليم، لم يعد تمويل التعليم مسألة تتعلق بجمع مزيد من التبرعات والرغبة في تحقيق نتائج أفضل. فتعزيز الوصول إلى التعليم الجيد بشكل مسؤول، يتطلب التنسيق لوضع استراتيجية تتضمن أدوات تمويل مرتبطة بالنتائج والمساءلة على هذه النتائج، وبعبارة أخرى، تكريس مفهوم التوطين مع استخدام معايير المساءلة المالية المطبقة في قطاع التعليم مع القدرة على الوصول إلى المجتمعات النائية أو المستبعدة. ويمكن أن تسهم مؤسسات العطاء في رفع مستوى التمويل لتحقيق نتائج أفضل عندما تكون الموارد محدودة. كما يمنح الشعور بالمسؤولية الثقة التي تساعد الجهات الحكومية على تلبية الطلب المتزايد على التعليم الذي يترافق مع زيادة التحديات.