خاص: Entrepreneur Alarabiya
بقلم: شريماتي دامال، الرئيس التنفيذي للشؤون المالية، ماجد الفطيم القابضة
بالنسبة للمؤسسات التجارية الكبرى، فإن تشغيل مجموعة أعمال متنوعة في مناطق جغرافية سريعة النمو، يعني على سبيل المثال لا الحصر مواجهة مجموعة متنوعة وواسعة النطاق من المتغييرات المتسرعة، فضلاً عن الجائحة الحالية. وتتراوح تلك المتغيرات بين توجهات عالمية ضخمة أو شكوك على مستوى الاقتصاد بوجه عام وحتى التحولات الجيوسياسية والتغييرات التنظيمية وتطور نماذج أعمال الرقمنة.
وفي خضم هذه الحالة المتزايدة من عدم اليقين، يجب علينا من أجل البقاء، العمل من الداخل على بناء قدرة الشركة، وصولاً لتحقيق الازدهار المنشود. ولا يمكن إنجاز ذلك في التو واللحظة عندما يكون التحدي وصل إلى أعتابنا بالفعل، أو أن تتوفر فرصة في منتهى الوضوح بحيث يمكن لأي لاعب في السوق اقتناصها. ومن هنا، فإن كل شيء يبدأ بمدى الصحة المالية للشركة والجدوى الأساسية لنماذج أعمالها، ولذا فإننا بحاجة دائمة إلى أن يكون لدينا إطار عمل فعّال ومتأهب لإدارة للمخاطر.
وإذا ما كان لديك صعوبات فيما يخص دورات السداد، أو أن تكون معرضاً لفقدان عملاء في يوم عمل جيد، أو أن تكون على وشك الوفاء بتعهدات القرض الخاصة بك، فسيكون من الصعب أن تتحلى بالمرونة الكافة لإجراء مناورات سريعة، كما سيكون من الصعب عليك التحلي بالرشاقة المطلوبة لتستجيب للتطورات بمرونة وذلك في حال كانت ثقافتك التنظيمية تقليدية ومتصلبة. فهناك حاجة ماسة إلى مناهج عمل أكثر قوة ومرونة لإدارة المخاطر على المستوى المؤسسي بما يضمن استمرارية الأعمال خلال إدارة الأزمات.
نهج عفا عليه الزمن
لقد كان مفهوم “الاستجابة” وفق النمط التقليدي بالنسبة للعديد من الشركات، يتلخص في إدراج المخاطر المحتملة ضمن التقييمات السنوية. وقد تظهر تلك المخاطر على مصفوفة محددة وواضحة حيث تقع في مكان ما على محوري “التأثير” و”الاحتمال”، وقد كانت تلك المصفوفة تمثل الكرة البلورية السحرية التي يمكنها كشف الطبيعة الدقيقة للأحداث قبل أن تتكشف.
يبدو أن هذا النهج وعلى نحو متزايد قد عفا عليه الزمن. لقد تجاوزت جائحة كوفيد-19 بكل تبعاتها فئات المخاطر التقليدية، حيث التعرض لفشل سلسلة التوريد واضطراب التقنيات الرقمية وخفض القوى العاملة
والتهديد السيبراني وبالطبع الصحة. وربما كنا فيما سبق نضع احتمالية انتشار جائحة عالمية على المصفوفة في الزاوية المخصصة للاحتمالات منخفضة الحدوث. ولكن بالنظر إلى التبعات والآثار واسعة النطاق لهذا النوع من الأحداث، فهل من المنطق وضعها إلى جوار أنماط عدم اليقين الأخرى في صناديق واحدة تلو الأخرى بمعزل عن غيرها مع مراعاة الجانب السلبي فقط ومرة واحدة أو حتى مرتين في السنة؟
هل من المقبول حقًا القيام بذلك خارج جدول أعمال اتخاذ القرار الأساسي للشركة، كنشاط حوكمة وحسب؟ إن هناك حاجة ماسة لإصلاح ذلك وهذا هو الوقت للقيام به.
إلى ما وراء المصفوفة
أولاً – في عالم يشهد تحديات متسارعة، تحتاج الوثائق السنوية الثابتة إلى إفساح المجال للمسح المستمر للأفق بحثًا عن مؤشرات التغيير المبكرة وما يرتبط بها من محطات تتطلب بدء العمل. وهذا ما يستدعي وجود استراتيجية تعتمد على البيانات، وتعديل ليس العمليات وحسب وإنما الثقافة أيضًا. وكما قال آرثر دي ليتل، فإن الهدف هو “إيجاد نهج ديناميكي لإدارة المخاطر قائم على القيمة”.
ثانياً – يجب تقييم المخاطر والفرص من وجهة نظر كلية. فنادرًا ما تظهر الأحداث من العدم وتختفي دون أن تحدث موجات، فهي تميل إلى إنشاء سلسلة معقدة من الأسباب المحتملة والعواقب واسعة النطاق. ولذا، يجب أن يتم جمع المعلومات الاستخبارية عن هذه الأحداث العارضة من قبل فريق خبراء متعدد الوظائف، وأن تشكل تلك المعلومات وتلك الفرق حلقة الوصل فيما بين المستوى التنفيذي والخطوط الأمامية.
ثالثًا – يجب أن تدخل هذه المعلومات وبشكل مباشر ضمن التخطيط الاستراتيجي والتنبؤ المالي والجدوى الاستثمارية، وكذلك طريقة اتخاذ القرارات بشأن نماذج الأعمال وتخصيص رأس المال. لأن هذا النوع من دعم القرار يميل إلى أن يكون أكثر فاعلية عندما ترتبط المخاطر بالافتراضات الأساسية وحيث يتم رصد نطاقات تأثيرها من حيث الكم.
رابعًا – بينما قد تحتاج الخطط إلى إدخال تعديلات عليها في أوقات الاضطرابات وذلك بطبيعة الحال، فإن إنشاءها من الأساس ما يزال ذا قيمة كبيرة. وذلك لأن التخطيط من أجل الاستمرارية والاستجابة الفعّالة للأزمات يجمع أصحاب المصلحة الرئيسيين معًا للنظر في الحقائق البديلة وأنماط التصعيد، والتعرف ببساطة على بعضهم البعض بما يبعث على الطمأنينة، وهو أمر حيوي وضروري في أعمال متنوعة مثل أعمالنا التي تنشط في 17 دولة على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد نجحنا في ذلك
بمعونة تحالفاتنا الوثيقة مع كل من المساهمين ومجالس الإدارات وحتى القيادات التنفيذية العليا، وصولاً إلى تخطيط الأعمال ووضع أطر عمل وقرارات رأس المال. وقد نتج عن هذا الجهد الجماعي قرارات منسقة بشكل أفضل وأسرع في الأزمة التي نمر بها حاليًا.
خامسا – كما قال استشاري الإدارة والمؤلف الشهير بيتر دراكر في أحد مقولاته ذائعة الصيت “إن الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار” وذلك معناه أنه مهما كانت استراتيجتك قوية فإن ثقافة الشركة الداخلية غالبًا ما يكون لها الكلمة الأخيرة. وقد أوردت شركة الاستشارات الإدارية ماكنزي في أحد أبحاثها أن أسباب حدوث مخاطر ذات تكلفة باهظة وفشل النزاهة يتعلقان في الأساس بوجود نقاط ضعف في ثقافة الشركة. ومن هنا نجد أن فتح باب النقاش الصحي بحرية ودعم ذلك ومكافأته فيما يخص المخاطر والمجازفات يعد أمرًا بالغ الأهمية. ولذا يتوجب أن تتجذر تلك الثقافة بدءًا من مستويات الإدارة العليا ومرورًا بكل المستويات الإدارية الأخرى، وأن يكون لها انعكاساتها على القرارات المتعلقة بالتوظيف والمكافآت وحتى العقاب على سوء السلوك.
الناس أولاً
من وجهة نظر إيجابية، نجد أن جائحة كوفيد-19 قد ساعدتنا على أن نكون أكثر استعدادًا للمخاطر، ودفعتنا نحو اكتشاف طرق جديدة للتكيف. فعلى سبيل المثال، قمنا في “ماجد الفطيم” وخلال يومين فقط باتخاذ قرار سريع بإعادة تأهيل وتوزيع 1000 من زملائنا العاملين في دور السينما والمواقع الترفيهية التي تم إغلاقها بسبب الجائحة وضمهم إلى القوى العاملة في قطاع تجارة تجزئة المواد الغذائية لتلبية الطلبات المتزايدة عبر الإنترنت على متاجر “كارفور“. ومع ذلك، لا يمكن للشركات مثل شركتنا الاعتماد فقط على ظهور أحداث طارئة لإحداث التغيير المنشود. ولذا فإن التعرف على آراء فرق العمل على كل المستويات وصولاً إلى الزملاء في المواقع التنفيذية على الأرض يعد أمراً بالغ الضرورة.
فمن أجل تحديد المخاطر، يجب أن يشعر الموظفون بالحرية للحديث علانية والنظر بجدية في أي مخاوف لديهم، ويجب أن يشمل ذلك جميع المستويات من الأسفل إلى الأعلى. إن تشجيع السلوك التأملي اليقظ بين القيادات أمر حيوي أيضًا لتجنب ما يسمى بالتفاؤل الواهم أو اليقين المتحيز. وذلك حتى نتجنب الوقوع في فخ توقع مخاطر المستقبل بطريقة مماثلة لتلك التي كنا نتبعها في الماضي.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن تمكين الأشخاص واتخاذ القرار على المستوى الصحيح يتيح لنا التحرك وتنفيذ استجابات سريعة، وهو ما يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في حال الأزمات متعددة الأبعاد. وبصفتنا قادة أعمال،
يتوجب علينا جميعًا قيادة هذا التغيير الثقافي من خلال الطريقة التي نتعامل بها لنعطي الناس قدرهم. إن الموظفين هنا ليسو هم المستفيدين من ذلك وحسب، بل سينعكس ذلك في شكل مخاطر أقل وربحية أعلى.
بناء المرونة
في عام 2020، تقدمت شركات تصل قيمتها إلى نحو 50 مليار دولار بطلبات إفلاس في الولايات المتحدة وحدها. كما تعرض العديد من الشركات إلى التعثر بسبب ارتفاع مستويات الديون. وفي الوقت الذي تعاني فيه العديد من الشركات، تلعب المرونة المالية دورًا حاسمًا في قدرة الشركة على تحمل المزيد من المخاطر خلال سعيها وراء الفرص.
لكن المرونة المالية لا تنتهي عند الأبواب الأمامية لنشاطك التجاري. فكما أوردت شركة “كي بي أم جي”، فإن الأعمال التجارية في هذا العالم الذي أضحى أكثر اتصالًا عما كان في السابق، فإن الرقابة الإضافية للجدوى المالية للأطراف الثالثة تعد أمر لا بد منه، ويمكن انجاز ذلك من خلال الاستفادة من العلاقات المشتركة والتقنيات لتعزيز سلاسل التوريد وهو ما نركز عليه بشكل رئيسي في شركة “ماجد الفطيم”.
وفي الواقع، إن حقيقة أن التقنيات تعد سلاح ذو حدين باعتبارها مصدرًا للمخاطر وفي ذات الوقت أداة تسهم في تخفيف حدة المخاطر قد تم توضيحه بشكل جلي عند تأمل التبعات والتوجهات التي أوجدتها جائحة كوفيد-19. ففي عام 2020، نجح الكثير من تجار التجزئة في مواكبة التوجه المتصاعد في عدد المتسوقين الذين أصبحوا يفضلون القيام بذلك إلكترونيًا وبنسبة وصلت إلى 30% لشراء المواد الغذائية والسلع المنزلية. كما تحولت أنشطة الأعمال التجارية إلى الإنترنت وبأعداد كبيرة، حيث أصبحت الاجتماعات والمؤتمرات يتم عقدها افتراضياً عبر تقنيات الفيديو، وقد تزامن كل ذلك مع زيادة غير عادية في مستويات الهجمات الإلكترونية.
إن تلك ليس سوى بعض من مجموعة المخاطر الرقمية التي يجب معالجتها. وكما أوضحت شركة ديلويت فإن الشركات بحاجة إلى إجراء تقييم استباقي لمجموعة واسعة من المخاطر الرقمية من أجل بناء مرونتها وحماية البيانات وتغيير سلوك العملاء وتفادي اضراب سلسلة التوريد. إن معالجة ذلك سيعزز قدرات فرق العمل متعددة الوظائف المتخصصة في إدارة المخاطر والتي تستند في عملها إلى بيانات والذين يمكنهم رؤية التحديات من عدة زوايا.
التعامل مع المخاطر
لقد قلبت جائحة كوفيد-19 فرضيات التخطيط وتوقعاتنا جميعًا. لكنها لن تكون الأزمة الأخيرة التي ستقوم بذلك.
إن نوعية ما نعيشه من اضطرابات الآن يجعل من المستحيل الاستمرار على أي مسار تم التخطيط له مسبقًا فيما يتعلق بالحماية من المخاطر. فقد أُجبر الجميع على إعادة تقييم كيفية حماية أنفسهم بشكل أفضل. وسيكون عام 2021 هو عام تنفيذ هذه الخطط.
ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن إعادة تشكيل إدارة المخاطر قد لا تضمن إمكانية توقع الاضطراب التالي الكبير. ولكنه سيجعلنا أكثر استعدادًا لتقديم استجابة أكثر تنظيمًا وفاعلية، مهما كان التحدي الذي سيقف في طريقنا. وقد يكون عدم اليقين ذاته مصدرًا للمخاطرة، لكن احتضان تلك الفكرة بوضوح وسرعة العمل عليها هو المحرك الأكبر للارتقاء بميزة التنافسية.
إن إدارة المخاطر ليست شيئًا نقوم به بعد الانتهاء من العمل الحقيقي، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من نموذج العمل الناجح.