بقلم: أولي هانسن، رئيس استراتيجية السلع في ساكسو بنك
شهدت أسعار السلع الأساسية زيادة ملحوظة خلال النصف الثاني من عام 2020، الأمر الذي ارتفع بمؤشر بلومبيرغ للسلع الأساسية بأكثر من 15% مدفوعاً بالعديد من العوامل الدائمة نوعاً ما. وبعيداً عن عودة الأمور إلى طبيعتها بعد الركود الذي تسببت به أزمة كوفيد-19 في وقت سابق من العام الجاري، فقد استفاد القطاع أيضاً من الانتعاش القوي لمعدلات الطلب في السوق الآسيوية وعلى رأسها الصينية، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بالطقس والتي ساهمت في رفع أسعار السلع الأساسية الزراعية. وعلاوة على ذلك، يتمحور تركيز المستثمرين أيضاً على أثر الإنفاق المالي والنقدي إلى جانب مخاطر انخفاض قيمة الدولار وزيادة معدلات التضخم.
وخلال عملي في الأعوام الثمانية الأولى من هذه الألفية في لندن لدى مؤسسة متعددة الأصول ومختصة في استشارات تداول السلع وتتعامل في مجال السلع الأساسية على نطاق واسع، شهدتُ خلال تلك الفترة أولاً صعود الصين كقوة اقتصادية عملاقة تستأثر بغالبية المواد الأولية بمختلف أنواعها لتلبية متطلبات اقتصادتها المتنامي. وتميزت أعوام الازدهار تلك بمحدودية العرض، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع الأسعار وارتفاع مؤشر بلومبيرغ للسلع الأساسية بواقع 160% بداية من عام 2000 وصولاً إلى ذروته في عام 2008، قبل حالة الفوضى الشاملة التي شهدتها نتيجة للأزمة المالية العالمية والتي ما زال القطاع يُحاول التعافي منها بصعوبة منذ ذلك الحين.
وقد منحت الأسعار المرتفعة للغاية خلال ذلك العقد دفعة قوية للمنتجين الذين استجابوا لهذه الزيادة برفع مستويات إمكاناتهم وإنتاجيتهم. وفي أعقاب أزمة عام 2008، شهد العالم عقداً كاملاً من الابتكارات التكنولوجية التي أدّت إلى زيادة كبيرة في معدلات إنتاج النفط الصخري الأمريكي، بينما نجح المزارعون في تعزيز مكاسبهم وزيادة إنتاجهم من المحاصيل الرئيسية. ونتيجة لهذه التطورات، إلى جانب زيادة أعداد مشاريع التعدين المطروحة عبر الإنترنت، شهد العالم على مدى ستة أعوام ولغاية الآن وفرة في العرض أدّت إلى فرض حالة من التأجيل في السلع الأساسية، الأمر الذي ينعكس على شكل منحنى للعقود الآجلة حيث يُمكن تحديد السعر الأقل بسبب فرط العرض.
وخلال هذه الفترة الطويلة، كانت المحفظات التي نجحت في مجاراة مؤشرات السلع الأساسية الرئيسية مثل مؤشر بلومبيرغ واسع النطاق للسلع الأساسية ومؤشر ستاندر أند بورز جي إس سي آي للسلع الأساسية، المختص بشركات الطاقة، هي الوحيدة التي كانت عرضة لتحمل تكاليف سنوية للتمسك بمواقفهم المالية أو التخلي عنها (العائد السلبي). وأسهم هذا مقترناً بالقوة النسبية للدولار الأمريكي ومحدودية مخاطر التضخم إلى مرور حوالي عشرة أعوام من العائدات المنخفضة. غير أنّ الأشهر القليلة الماضية قد شهدت تغيّراً في المواقف حيال الاستثمارات في السلع الأساسية.
وارتفعت قيمة أسهم القطاع الزارعي بشكل واضح بسبب المخاوف المتعلقة بالطقس والطلب القوي على التصدير، بينما قامت الصين بالاستئثار بالمعادن مجدداً، وبدأ قطاع الطاقة بالاستعداد للانتعاش في معدلات الطلب العالمية على النفط بعد انتهاء أزمة كوفيد-19. ومن جانبها، سجّلت المعادن الثمينة وشبه الثمينة زيادة في معدلات الطلب في خطوة للتحوط من الأخطاء الممكنة في السياسات ومخاطر انتعاش الاقتصاد. ويُمكن ملاحظة أثر منحنيات العقود الآجلة في الجدول الوارد أعلاه.
فمنذ عام مضى كانت تكلفة الاحتفاظ بموقف العقود الآجلة (أو التخلي عنه) للذرة والسكر وفول الصويا وزيت الصويا ودقيق الصويا كافة أكثر من 5% على أساس 12 شهراً. وبالنظر إلى حالتها اليوم، نجد بأنّ هذه السلع الأساسية تُعطي عائداً إيجابياً يتراوح ما بين 2% وأكثر من 10%. كما لمسنا وجود تحسن عام في مجال آخر؛ إذ تُعتبر تكلفة التمسك بسلع مثل البن العربي وزيت الغاز والغاز الطبيعي الأكثر تكلفة على الإطلاق من منظور تكلفة التخلي عنها.
ومن خلال النظر إلى 26 من أكثر عقود السلع الأساسية الآجلة تداولاً، نجد بأنّ عقود العمل المستمرة لعام واحد عادت إلى مستوى الصفر للمرة الأولى منذ ستة أعوام. وتُظهر الرسوم البيانية أدناه أوجه التحسن المسجلة عبر القطاعات الثلاثة وعلى رأسها القطاع الزراعي وثم قطاع المعادن الثمينة والصناعية، ومن ثم الطاقة. وكان قطاع الطاقة على وجه الخصوص قد شهد تحسناً قوياً منذ 9 نوفمبر الجاري، عندما أسهمت الأخبار الإيجابية بخصوص اللقاح في تعزيز إمكانية عودة الأمور إلى طبيعتها خلال عام 2021.
وبالنظر إلى عام 2021، يُمكننا أن نرى وجود دعم أساسي لقطاعات الطاقة والمعادن الصناعية، لا سيما في ظلّ انتشار العودة الدورية لخارج آسيا بالتزامن مع انحسار حدة انتشار الفيروس. وتُشير التوقعات إلى أنّ المخاطر المتعلقة بارتفاع الأسعار بسبب مشاكل الطقس قد تؤثر على القطاع الزراعي خلال العام الجديد أيضاً، الأمر الذي يُعزى أساساً إلى ظاهرة النينا المناخية والتي تسبب المشاكل بالفعل للمزراعين في أمريكا الجنوبية. وختاماً، لا نتوقع نهاية الاتجاه التصاعدي في أسعار الذهب، لا سيما مع قرار البنوك المركزية بإبقاء أسعار الفائدة في أدنى المستويات الممكنة، وزيادة مخاطر انخفاض قيمة الدولار، بينما ستُسهم الحاجة إلى التحوط من مخاطر التضخم المتزايدة في تعزيز الدعم المستمر للذهب والمعادن شبه الثمينة وقطاع الأساسية على حد سواء.
ومن وجهة نظر استثمارية، يُمكن توقع المخاطر الاستثمارية في سوق السلع الأساسية من خلال رصد المؤشرات الرئيسية لصناديق المؤشرات المتداولة وعقود الفروقات. يرجى الانتباه إلى أنّه يتم تطبيق بعض القيود الإقليمية فيما يتعلق بتوافر المنتجات المتعلقة بوضعك الاستثماري، سواء كمستثمر بالتجزئة أو مستثمر محترف.
يُظهر الجدول الوارد أدناه صناديق المؤشرات المتداولة الثلاثة الأبرز، علماً أنّ هناك الكثير من المؤشرات الأخرى. بشكل عام، وبالنسبة للغالبية، تنعكس المخاطر الكامنة في واحد من المؤشرات الثلاثة المذكورة. ويُرجى الانتباه إلى أنّ تفضيل قطاع الطاقة والمعادن ينعكس من خلال مؤشر ستاندرد أند بورز جي إي سي آي، والذي يُعتبر مختصاً بشركات الطاقة (62%)، بينما يُمكن ملاحظة التحوط العام من التضخم بشكل أفضل من خلال مؤشر بلومبيرغ للسلع الأساسية، وذلك بسبب التنوع الكبير للسلع ومحدودية مخاطرها الاستثمارية، مثل قطاع الطاقة، والذي ما زال يُسجل نوعاً من العائدات السلبية.