بقلم توم دي وايلي، الشريك والمدير الإداري في “بين آند كومباني” مكتب الشرق الأوسط، وهرنان ساينز، الشريك في “بين آند كومباني” دالاس
للحظة في التاريخ، كان هناك أمر بسيط ومشترك في بيانات المهام التي أصدرتها جميع الشركات، ألا هو التأكيد على حماية الموظفين والعملاء والأعمال. فهي استخلصت دروساً معمقة في الأشهر التي أعقبت تفشي الجائحة، ما أدّى إلى تسارع مذهل في وتيرة المبادرات الافتراضية والرقمية والمؤتمتة، إن من ناحية التفاعل مع العملاء أو من ناحية العمليات الداخلية. ومع سعي فرق القيادة المتواصل إلى التوغّل في عملية التعافي المعقدة، برزت حقيقة واحدة لا لغط حولها، وهي أنه بات من المستحيل استعادة أساليب العمل التي كانت سائدة من قبل.
بيد أنّ هذا التعافي لن يتبع مساراً مستقراً. سيعود الموظفون إلى العمل وستُستأنف العمليات وفق جداول زمنية مختلفة، وباتباع منحنيات مختلفة في الدول والمناطق والصناعات والقطاعات. بالإضافة إلى ذلك، سيستمر الوباء في اختبارنا جميعاً، حيث سيضرب قلب المجتمعات، ويفرض علينا الاستعداد لموجات جديدة من انتشار العدوى وعمليات الاحتواء. وسوف تتقدم الشركات حيثما أمكنها ذلك، وتتراجع عندما تضطر لذلك، وسيتكرّر الأمر، وسيكون عليها التكيف والبدء من جديد.
وسينتهز قادة القطاعات في ظل الموجة التالية المتوقعة كل فرصة للتوجه نحو مستقبل جديد، بدلاً من العودة إلى المنظور السابق لـ “الوضع الطبيعي”. فالدروس المستفادة من الأشهر القليلة الماضية قيّمة بقدر ما كانت مؤلمة. وقد حان الوقت الآن لتحويلها إلى نماذج تشغيلية ونماذج عمل للمضي قدماً.
عالم افتراضي رقمي معتمد على الأتمتة
مع بداية الأزمة، أدّت التقنيات الرقمية والأتمتة دوراً محورياً في الاستجابة الأولية من قبل العديد من الشركات. لكن لم تكن تقنية مؤتمرات الفيديو ولا برمجيات المشاركة ولا شبكات الإنترنت في المنازل بجديدة على الإطلاق. بل ما استجدّ كان الاستعداد المفاجئ من قبل جميع الوظائف لاجتياز أي عقبات قد تعترض طريقها، وفي مقدمتها تقنية المعلومات بطبيعة الحال، وحذت حذوها الوظائف القانونية والمالية والامتثال والمبيعات وغيرها.
وقد سارت في هذا الاتجاه جميع القطاعات بكافة وظائفها ومستوياتها. فخارطات الطريق الرقمية التي كانت في السابق تُقاس على مدى سنوات عديدة، باتت ترُسم وتنفّذ خلال أيام، وسرعان ما أثبتت فعاليتها. وعلى نحو مماثل، حلّت الأتمتة محل بعض الموظفين الذين طلب منهم ملازمة منازلهم وساعدت الشركات على الاستجابة بسرعة للزيادات في الطلب.
وفي ظل المضي نحو المزيد من التعافي، يتوجب على الشركات المُسارَعة إلى إنجاح تجاربها التكتيكية واستجابتها للأزمات من خلال التطلع إلى المستقبل ما بعد جائحة “كوفيد-19” من منظور أوسع والتفكير في كيفية تغيير أساليب عملها بما يمكّنها من تحقيق النجاح. فالنجاح على المدى الطويل لن يكون رهناً بأتمتة قائمة المهام وحسب، بل ينبغي على الشركات إعادة تصميم عملياتها وإجراءاتها واضعةً الأتمتة والرقمنة نصب أعينها، لا سيما حيث تحقّق هاتين الأخيرتين القيمة الأمثل.
المرونة في عالم مضطرب
رغم أن الكفاءة في الوظائف ونماذج الأعمال حظيت بالتقدير على مدى العقود، فقد كشفت جائحة “كوفيد-19” حقيقة أنه غالباً ما يأتي ذلك على حساب المرونة، والتي تجسد قدرة الشركات على التعافي بسرعة من الصدمات. وعلى مر السنين، تحولت ضغوط السوق المتزايدة على القدرة التنافسية من حيث التكلفة، إلى ضغط مستمر على سلاسل التوريد. وقبل انتشار الجائحة، كان قادة سلسلة التوريد قد بدأوا بالتنبه إلى أن سلاسل التوريد وإن اتّسمت بفعالية نسبةً إلى تكلفتها فهي تعاني من الهشاشة في مواجهة الاضطرابات المتكررة والمتزايدة. ومن خلال الصدمات التي تسبّب بها انتشار “كوفيد-19” بدا واضحاً أن سلاسل التوريد اليوم معقّدة للغاية وغير مرنة للغاية، وأن المستقبل سيتطلب المزيد من الوضوح والتتبع. وقد بدأت الشركات تتخذ خطوات لبناء شبكات مرنة من الموردين وشركاء التصنيع.
تتطلب المرونة أيضاً اختراق الستار المعتم الذي غطى سلاسل التوريد في الماضي. تستخدم الشركات تطبيقات سلاسل التوريد والأدوات الأخرى المُستضافة على السحابة والتي تمكنها من مشاركة المعلومات مع شبكات الموردين والشركاء. وخلال أزمة “كوفيد-19″، طالب العديد من المصنّعين بمزيد من الوضوح في سلاسل التوريد الخاصة بمورديهم – وهي ممارسة تستحق الاستمرار. وبالمثل، فإن حلول “برج المراقبة” التي تدمج البيانات عبر سلسلة التوريد بأكملها، تتيح رؤية فورية لفرق القيادة وتسمح لها بالموازنة بين العرض والطلب خلال الأوقات العادية، بالإضافة إلى الاستجابة لصدمات العرض والطلب.
الحاجة إلى البساطة
أكدت أزمة “كوفيد-19” من جهة، والحاجة إلى قدر أكبر من المرونة من جهة أخرى، على أهمية عبرة أخرى تعتبر جدلية للعديد من المديرين التنفيذيين، وهو أن سلاسل التوريد المستقبلية يجب ألا تدعم محافظ المنتجات التي كانت تتميز بالتعقيد في الماضي. لطالما كان من الصعب على المؤسسات الكبيرة مقاومة جاذبية التخصيص المتزايد وتعقيد المنتجات، حتى مع تزايد التكلفة والتعقيدات المرافقة.
ولكن في مواجهة فيروس “كوفيد-19″، بذلت الشركات كل ما يتعين عليها فعله لمواكبة الطلب المتزايد أو مواجهة تحديات تشغيل المصانع والمستودعات مع وجود عدد أقل من الموظفين والمدخلات. لقد كان التركيز على وحدات التخزين الأكثر أهمية، وهي المنتجات المربحة التي يحتاجها العملاء بشدة، مع العمل في الوقت ذاته على تقليص الباقي. ونتيجةً لذلك، فقد أبلغت العديد من الشركات عن زيادات مفاجئة في الإنتاجية.
حان الوقت الآن بالنسبة للشركات للنظر في المنتجات التي لا تحتاج إليها والتخلص منها. وعندما تظهر فرص مغرية لمنتجات جديدة، فستحتاج الشركات إلى موازنة فرص الإيرادات الواضحة مقابل التكلفة الخفية للتعقيد. ومن دون تدخل متعمد للحفاظ على البساطة في المستقبل، فإن التعقيدات في الأعمال وتقديم المنتجات، ستتسلل مرة أخرى إلى جميع العمليات والمبادرات والاجتماعات والتقارير التي تدعمها.
المرونة في العمل
لم تكن البساطة هي التأثير الوحيد غير المتوقع للوباء. ففي غضون شهرين قصيرين، تعرضت الشركات خلال ظروف جائحة “كوفيد-19” لتغييرات سلوكية حاول العديد من المديرين التنفيذيين إقناع شركاتهم لسنوات بالقيام بها. كانت الفرق الصغيرة المتواجدة في الخطوط الأمامية، والتي مر كل منها بمراحل مختلفة أو تأثيرات عديدة للوباء في أسواقها، هي التي تقود الطريق عادةً. وقد ركزت الاجتماعات السريعة التي تم إجراؤها على متطلبات اليوم والأهداف الفورية للأسبوع.
ومع ذلك، فإن هذا النهج سيؤثر على الأبطال الذين حققوا النجاح في هذه الظروف في المقام الأول. يحتاج المديرون التنفيذيون إلى دعم الابتكار وتعزيزه بشكل منهجي من خلال إنشاء فرق أكثر مرونة ونشر مبادئ المرونة في جميع أرجاء المؤسسة. ومع تغير متطلبات العملاء بسرعة وانتقال الموظفين إلى وضع التعلم المعزز، يجب على المديرين التنفيذيين التحرك بسرعة لتثبيت حلقات ردود الفعل المغلقة بالنسبة لكل من العملاء والموظفين، ثم استخدامها للاختبار والتعلم والتكيف. لقد عملت جائحة “كوفيد-19” على تغيير الخطط والتأثير على الميزانيات. يمكن للمديرين التنفيذيين استخدام ذلك لصالحهم أيضاً. وبدلاً من محاولة تصحيح الخطط السنوية والخطط الثلاثية التي تعثرت وإعادة تعويمها، فمن الممكن استبدلها بخطط فصلية قصيرة.
يجب على كل شركة معرفة كيفية إعادة تشغيل العمليات. لكن الطريق الطويل نحو التعافي بدأ يفصل الشركات إلى مجموعتين مختلفتين:
تريد المجموعة الأولى العودة إلى وضعها الطبيعي، باتباع المسار الأقل مقاومة، وإعادة التشغيل بطرق يمكن التنبؤ بها والاستقرار مرة أخرى في المخططات التنظيمية السابقة. إنها طريقة مفهومة ومطمئنة ولكن من المقدر لها أن تؤدي إلى أداء متواضع – أو حتى الفشل – في العالم الجديد.
المجموعة الثانية ملتزمة بمسار أكثر صعوبة. تدرك هذه الشركات أنه ليس من الطبيعي العودة إلى الوضع السابق. وبدلاً من ذلك، فإنها تتقدم نحو المستقبل الجديد، وتقاوم جاذبية الحالة السابقة وتستفيد من المكاسب التي حظيت بها من الظروف التي شهدتها وتعلمت منها خلال الأزمة. إنها تنظر نحو استراتيجيتها وعملائها وعملياتها وهيكل مصاريفها بأسلوب جديد.
وختاماً، يمكن القول إن الخسائر البشرية الفادحة لفيروس كورونا والأضرار الاقتصادية المتزايدة أدت إلى مزيد من الوضوح والتركيز نحو الهدف، وهذا ما أجبر آلاف الشركات على تجربة طرق جديدة للعمل والتشغيل. إن الشركات التي تتكيف بقوة وتوسع أساليب عمل جديدة ستحول هذه الأزمة لصالحها. لا يقتصر الأمر بالنسبة لهذه الشركات على اجتياز مرحلة إعادة التشغيل، وإنما تعمل على تهيئة شركاتها لعالم من الاضطرابات المستمرة والصدمات المنتظمة، حيث تحظى المرونة والقدرة على التكيف بقيمة أكبر.