لم يكن الكثير منا يتوقع هذا التأثير غير المسبوق الذي أحدثه فيروس كورونا (كوفيد-١٩) على حياتنا ونمط عيشنا عندما سمعنا كلمة “فيروس جديد” لأول مرة في مطلع العام. وبعد مضي ٦ أشهر، شهدنا خلالها ارتفاع في مستويات الإصابة إلى أن تجاوزت الملايين، ودخلت معظم الدول حول العالم في حالة إغلاق وحجر وتعطيل واسع النطاق في جميع الصناعات تقريبًا.
يمكن النظر الى جائحة فيروس كورونا على أنها حدث يندرج تحت نظرية البجعة السوداء وهي نظرية تُشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة بناءا على العرف العام ، حيث كان علماء الأحياء يتعارفوا على لون أبيض واحد للبجع حتى اكتشف أحد العلماء أنه يتواجد باللون الأسود في قارة أستراليا في أوائل القرن العشرين، خصوصاً بعد نجاح الفيروس في خلط أوراق قادة العالم، وإلحاق ضرر هائل غير متوقع في الاقتصاد العالمي، وإجبار سكان العالم على تغيير نمط حياتهم بين عشية وضحاها. وهنا يكمن السؤال، ماذا تعني أحداث البجعة السوداء بالنسبة لرواد الأعمال؟
إن مثل هذه الأحداث الحرجة اقتصادياً تضع السوق ومعه المستثمرين في حالة من الحذر الشديد، مما يعني أن الحصول على تمويل لرأس المال الاستثماري أمر صعب للغاية، وبالتالي، يكون الحصول على أفكار تجارية جديدة أمرًا معقداً. ولكننا تعلمنا من التاريخ أن البشرية لن تتوقف وتستسلم بل ستبحث عن طرق للخروج من هذه الأزمة بشكل أقوى خصوصاً بتوفر أنظمة أكثر مرونة اليوم، لذلك سنحتاج إلى قدر كبير من الابتكار والأفكار الجديدة، وبالنسبة لرواد الأعمال، تعد هذه فرصة ذهبية كبيرة.
ريادة الأعمال والركود الاقتصادي
قبل أن ننظر إلى المستقبل، يجدر بنا أن نستكشف الماضي وندرس الأحداث المشابهة وكيف تعاملت البشرية معها. فيروس كورونا (كوفيد-١٩) هو أول جائحة عالمية حقيقية تواجه البشرية منذ أكثر من قرن، مما يجعل التحليل الدقيق للتأثير المحتمل على ريادة الأعمال أمرًا صعبًا إلى حد ما، ولا يمكن حتى وضعه في سياق فترة الإنفلونزا الإسبانية، التي كانت آخر جائحة خطيرة ضربت العالم في نهاية الحرب العالمية الأولى، لأن الجهود التي بُذلت لمكافحة هذا الوباء في العالم خلال تلك الفترة لم تكن تتحرك بنفس الكم والوتيرة التي عليها اليوم.
في حين أن حدوث الأوبئة العالمية يعد أمراً نادراً للغاية، فإن أحداث البجعة السوداء هي أقل من ذلك بكثير، وعند الإمعان في دراستها، تبدأ أنماط معينة في التكشف والظهور.
سواءً نظرنا في الأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٧، أو أزمة النفط في السبعينيات، أو حتى الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، يُظهر البحث أن أوقات الضغط الاقتصادي الكبير توفر دائمًا أرضًا خصبة للأفكار والمشاريع الجديدة، فالحاجة كما يقال، هي أم الاختراع.
عند مواجهة متغير جديد، فإن البشرية لديها البراعة لإعادة توجيه دفتها والتكّيف بسرعة مع “المعايير الجديدة”، وعندما يتعلق الأمر ببرنامج الانتعاش الاقتصادي من أزمة فيروس كورونا، فمن المرجح أن يجد رواد الأعمال أنفسهم في الطليعة.
في أعقاب الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨، أحدثت شركات مثل أوبر (تأسست عام ٢٠٠٩) وAirbnb (تأسست عام ٢٠٠٨) ثورة في “الاقتصاد التشاركي” من خلال تقديم طريقة سهلة وسريعة لتحقيق دخل جيد للأفراد الذين يعانون من صعوبات مالية. وحولت شركة Zendesk (تأسست عام ٢٠٠٧) خدمات العملاء إلى خدمات بالتقنية السحابية بحيث تسمح للشركات التي تواجه صعوبات اقتصادية بتقليص بنيتها التحتية، وخفض تكاليفها بصورة كبيرة.
عادة، نرى فجوة بين السبب والنتيجة – فقد نشأت الأزمة المالية في أوائل القرن العشرين، على سبيل المثال، عن مجموعة من العوامل التي تتمحور انهيار سوق الأسهم الامريكيه في ١٩٢٨م واستغرق بعض الوقت حتى انهار هذا النظام المالي الهش ومن ثم دخل الاقتصاد الامريكي مرحلة الركود العظيم.
لا شك أن رواد الأعمال حاليًا في عين عاصفة كورونا ويتعين عليهم الآن الاستعداد للعالم ما بعد هذه الجائحة أخذين في الحسبان التأثير الاقتصادي والإنساني الكامل لها.
تصميم الشركات الناشئة في عالم “ما بعد كورونا”
شكّلت جائحة فيروس كورونا تحديًا للكثير من الشركات التي لم تكن مجهزةً للتعامل معه، حتى تلك التي تملك خطة عمل شاملة للحالات الطارئة لن تستطيع الصمود كثيراً في ظل حالة الإغلاق الكبير الذي عطل الاقتصاد العالمي لعدة شهور متتالية وكشف عن وجود ثغرات في العديد من الصناعات، هذه الثغرات هي عبارة عن نقاط ضعف في هذه النظم والتي في الوقت نفسه تمثل فرصًا واعدة ينبغي لرواد الأعمال الالتفاف اليها.
لنأخذ الرعاية الصحية على سبيل المثال، حيث تعتبر من الصناعات التي تعتمد بقوة على المرونة التشغيلية، ولهذا السبب نرى مولدات احتياطية في كل مستشفى رئيسي. لكن ظهور فيروس كورونا أدى إلى نقص عالمي في المعدات الرئيسية بما في ذلك أجهزة التنفس ومعدات الحماية الشخصية. وبدون هذه المكونات الأساسية، أصبحت بعض المستشفيات محدودة في قدرتها على مكافحة الفيروس بشكل فعال.
كما سرعت هذه الجائحة العالمية العديد من التقنيات التي أصبحت تتصدر أعلى الاستخدامات، مثل التطبيب عن بعد، الذي كان اتجاهاً صاعداً على مدى السنوات القليلة الماضية، لكن الوباء العالمي رفع حدة الطلب عليه. ومن بين الأمثلة المشهورة على ذلك الشركة الناشئة كيورا (Cura) التي شهدت نموًا هائلاً في الطلب على توفير الخدمات الطبية الافتراضية.
هناك مجال خصب لوراد الأعمال لتقديم حلول مبتكرة لمعالجة نقاط الضعف في نظم الصناعات الحالية والاستفادة من هشاشتها التي ظهرت بسبب هذه الأزمة. بلا شك أن هذا مجال كبير للأفكار الواعدة يستحق الاستكشاف والدراسة، تخيل لو كان باستطاعة المستشفيات صناعة المواد الاستهلاكية الخاصة بها باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الابعاد، سيكون لذلك تأثير كبير في رفع معدل استجابتها للأزمات أو الارتفاعات غير المتوقعة في الحالات المنومة.
إضافة قيمة حقيقية
التعليم هو صناعة أخرى انقلبت رأساً على عقب نتيجة جائحة كورونا، حيث ألغت إجراءات الإغلاق والحجر والتباعد الاجتماعي طرق التدريس التقليدية في جميع أنحاء العالم، حتى هنا في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، شعرنا بهذا التأثير بشدة حيث اضطررنا لإيجاد طرق مبتكرة للتغلب على التحدي الذي لم يكن يتوقعه أحد منذ ٦ أشهر. لقد رأينا بالفعل طفرة في الحلول التعليمية التي تعتمد على التقنية عن بعد، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه في الصعود.
الصناعات اللوجستية هي أيضاً مجال آخر جدير بالدراسة خصوصاً بعد أن بات واضحاً مدى هشاشة سلاسل التوريد العالمية وضعف مرونتها تحديداً في الأسابيع الأولى من جائحة كورونا. لذلك توجد حاجة ماسة إلى ابتكارات لوجستية جديدة خصوصاً للمواد الأساسية مثل الأغذية والأدوية.
يمكن لرواد الأعمال البحث في مكامن نقاط الضعف في هذه الصناعات وطرح أفكار للتغلب على هشاشة نظمها بما تمليه احتياجات السوق في الوقت الحالي، مما يسمح لهم بتصميم شركات ناشئة مبتكرة تضيف قيمة حقيقية في أوقات الحاجة.
ديناميكية الشركات الناشئة
توفر أحداث البجعة السوداء ثروة من الفرص لأولئك الذين يتطلعون إلى تأسيس أول شركة ناشئة، ولكن ماذا عن الشركات الناشئة الحالية التي تأثرت أعمالها بسبب التغيير المفاجئ في ظروف السوق؟
تشير الدراسات إلى أن الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة مجهزة بشكل أفضل من الشركات الصغيرة للبقاء والاستمرار في أوقات الاضطراب الاقتصادي الكبير نظراً لما تمتلكه من أصول واحتياطيات مالية أكبر، إلا أنها ببساطة لا تستطيع مجاراة سرعة الشركة الناشئة التي يمكنها بكل سهولة التحول إلى منتجات أو خدمات أو صناعات جديدة تلبي احتياجات السوق المتقلبة بسرعة أكبر، أو حتى ببساطة عن طريق تقليص عملياتها إلى أقل درجة ممكنة لحين تجاوز الأثر الاقتصادي للأزمة. وبينما الشركات الكبيرة تقلص عدد الموظفين للحد من المصاريف ، توفر المهارات في سوق العمل يوجد فرصة كبيرة للشركات الناشئة للحصول على مهارات كبيره بولاء كبير وتكلفه اقل.
في النهاية، يخبرنا التاريخ أن معظم الكوارث التي عصفت بالبشرية على مر العصور أنتجت فئة من رواد الأعمال المبدعين الذين حولوا التحديات الى فرص ريادية رائعة ، وحان الوقت لرواد الأعمال للإبداع والمشاركة في صناعة مستقبل افضل للعالم.
Source :KAUST