هل تستطيع التصديق أن بقالة صغيرة في زاوية أحد الأحياء السكنية المتواضعة استطاعت أن تجني أرباحاً في -أزمة وباء كورونا- أكثر من شركة كانت تجني ملايين الدولارات شهرياً ؟!
هذه المقارنة ليست من الخيال، وليست من باب المبالغة، حيث كشفت مؤخراً شركة “برايماركPrimark” العملاقة للملابس والمشهورة في بريطانيا، وفي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تحقق مبيعات بقيمة ٨١١ مليون دولار شهريًا، أنها لم تجنِ أية أرباح منذ فرض قرارات حظر التجول وإغلاق المتاجر في كل الدول التي تتواجد فيها محلاتها، فقد أجبرها الوباء العالمي على إغلاق متاجرها في أوروبا والولايات المتحدة لأن قميصاً واحداً لم يُبَعْ !
قد تتسائل كيف لشركة بهذا المستوى من الأرباح أن تتدهور في مبيعاتها (المليونية) إلى أن تُصبحَ (صفراً) في ليلةٍ وضُحاها ! ويعودُ السبب في ذلك إلى أن السلسلة التي تأسست عام ١٩٦٩ لا تحتوي على متجر عبر الإنترنت. في تصريحٍ سابقٍ زعمت الشركة أن هذا يرجع إلى أنها لن تكون قادرة على إبقاء أسعار معروضاتها من الملابس منخفضة إذا عرضت خدمة توصيل الطلبات للمنازل.
والآن في ظل الأزمة لم يسعفها الوقت لبناء منصة إلكترونية جاهزة للبيع، وتوفير خدمة التوصيل إلى المنازل لأنه لم يكن أمراً مُدرجاً في خطة الشركة كما أن البنية التحتية لذلك غير متوفرة. في المقابل ارتفع سوق المتاجر الإلكترونية وحققت أرباحاً أكثر من أي وقتٍ مضى، والمثال على ذلك هي شركة “آمازون Amazon”، حيث وظفت ١٠٠ ألف موظف للتعامل مع تنامي الطلبات عبر موقعها الإلكتروني، معلنةً بعد ذلك عن تحقيق ٧٥.٧ مليار دولار في مبيعات الربع الثاني من السنة مرتفعةً بنسبة ـ٢٦٪ مقارنةً بالعالم الماضي.
وأعود للسؤال الذي طرحته في بداية حديثي عن السبب الذي يقف وراء تغلُّب متجر بسيط في مبيعاته شركًة عملاقة!، السبب ببساطة هو أنه متجرٌ صغيرٌ في أحد أقدم المناطق السكنية منخفضة التكلفة في إحدى دول الخليج العربي، وجد طريقه الخاص للتحوُّل رقمياً، وإبقاء مبيعاته في الاستمرار وسط وباء فيروس كورونا. كان المتجر يعتمد –قبل الأزمة- على زيارات زبائن الحي المنتظمة لشراء الفواكه والخضروات، أو العملاء المخلصين الذين يضعون طلباتهم عن طريق مكالمة هاتفية، لكن ومع فرض حظر التجول في بلد البقالة ووضع قيودٍ صارمةٍ على الحركة لوقف انتشار الفيروس، شُلّت أعماله مؤقتًا، فما كان من صاحب البقالة إلا أن يسارعَ لفتح قناة جديدة للبيع في ظل الأزمة (إعادة بناء التوجه Re-Building Direction) وتوصَّل لفكرة فتح رقم خاص لاستقبال الطلبات عبر الواتس آب (نموذج عمل جديد New business model )، واستعان بربَّات البيوت لإرسال الرسالة ونشر الرقم (التسويق Marketing ) مع محتوى تسويقي يقول فيه:”ليس لديَّ متجر إلكتروني لكن الخضروات والفواكه لديَّ طازجة وذات جودة جيدة وأرخص من سعر المتاجر الكبرى وبإمكاني التوصيل للمنزل والتسليم عن بُعد” (الإقناع Persuasion ) فما كان للحي إلا أن يستمر في دعم البقالة وزاد عليه الطلب كونه الأسرع والأرخص وذا جودة. (العائد على الاستثمارReturn on Investment ). لقد قدَّم هذا البقَّال البسيط درساً قيادياً في التعامل مع المتغيرات الكبيرة التي أحدثتها الأزمة، وعدم الرضوخ للظروف الراهنة.
هذا حال الكثير من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فالفرص التي فُتحت لها في هذه الأزمة وسّعت من آفاق أصحابها، وفتحت لهم قنوات حديثة للبيع، فمن كان يتصوَّر أن صياد الأسماك البسيط، الذي كان سوق السمك هو نقطة البيع الوحيدة لديه، يبيع اليوم عبر تطبيق إلكتروني؟! يقول أحد الصيادين عن هذا التغيُّر:”الأمر كان صعباً في البداية، التحول التقني ليست صنعتي ولم أتخيل أنني في يومٍ ما سوف أبيع عبر الإنترنت، لكن بعد ما أقدمتُ على التجربة، وجدتُ الأمرَ بسيطاً وسهلاً، والحمدلله فتح عليَّ رزقاً جديداً”
فرص النجاح والتحوَّل التقني في الأزمة أسهل بكثير بالنسبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة و العبارات التي تتردد عند بعض روَّاد الأعمال كمثل”طالما أنَّ تلك الشركة تتكبد الخسائر فلماذا التعب في المحاولة لإيجاد حل لمشروعي وأنا لا أساوي شيئاً مقارنةً بتلك الشركة التي تتكبَّد الخسائر رغم حجمها الكبير” ليست إلا عراقيلَ يضعها صاحب العمل لنفسه.
الأزماتُ دروسٌ وعبر؛ بل وفُرص ذهبية للربح، لكن الفرصة تأتي حين تُمعن في النظر وتحلَّل الواقع، وتبحث عن الفرصة، وفي الوقت الذي كانت فيه شركة برايمارك تخسر، كانت هناك العديد من متاجر الملابس الصغيرة تتحول تقنياً لتكون أقرب لعملائها، ولربما أن برايمارك لا تعاني من عدم وجود خطة للتحول التقني وإنما من ضعف الإرادة القيادية لوضع استراتيجية لدفع عجلة التحوُّل التقني.
هذا ما تثبته قصة إفلاس شركة كوداك Kodak المعروفة في مجال تصنيع الكاميرات والأفلام بعد مسيرة امتدت لـ ١٣١ عاماً ! ففي حين كانت تسيطر على السوق الأمريكي بنسبة ٩٠٪، بدأت المعاناة في مبيعاتها منذ أواخر التسعينيات مع ظهور الكاميرات الرقمية (التحول التقني) غير أن العقليات الإدارية في كوداك لم تكن تتمتع بالحسِّ الاستراتيجي المبتكر، ولم تكن تعي أن تاريخ نجاحات الشركة لأكثر من قرن من الزمان لن يشفع لها إن لم تواكب الثورة التقنية المُقبلة على العالم. تعنّدت قيادات الشركة ظناً منها أن العالم سيتمسك بتاريخ كوداك أكثر من إقبالهِ على التقنيات الحديثة، السهلة و السريعة، الأكثر حفاظاً على الذكريات المصوّرة! متجاهلينَ جانب الابتكار والتطوير ودورهما في استمرارية نجاحات الشركة، وحين استوعبت في ٢٠٠٣ بأن عليها تغيير استراتيجيتها -وهذا ما فعلته- كان السباق قد وضعها في آخر المراتب، واضطرت حينها لغلق ١٣ مصنعا و ١٣٠ مختبرا وقلَّصت القوى العاملة بـ٤٧ ألفا لتحسين قدراتها المالية بعد ما أعلنت عن إفلاسها في أمريكا!
“إن 40% من شركات الأعمال ستختفي خلال السنوات العشر القادمة إذا لم يكتشفوا كيفية تغيير المؤسسة داخليا لاستيعاب التقنيات الجديدة”(جون تشامبرز)
كيف ما كان حجم الأعمال، فالتحوُّل التقني لم يَعُدْ خياراً كالسابق وإنما أمراً مفروضاً للمحافظة على حياة المشروع، بل ولتكون عاملاً إيجابياً في زيادة المبيعات، بأقل التكاليف، وإن كنت لا تعلم من أين تبدأ، فالأمر يبدأ كما يقول نيتين سيث، الرئيس التنفيذي لشركة Incedo ، لتحقيق النجاح في التحول الرقمي:”يجب أن تكون نقطة البداية هي العميل”.
أدعوك عزيزي القارىء، كما أدعو القائمين على المشاريع، الشركات والحكومات أن تكرسوا جميعاً اهتماماتكم لاستشراف المستقبل، والتفكير في استثمار منافع الثورة الصناعية الرابعة للذكاء الاصطناعي(آخذين في الاعتبار أن التحول الرقمي الذي كان خياراً في الماضي أصبح اليوم قارباً للنجاة)، فعالم اليوم يؤكِّد بأنَّ من يسبق هو الذي يُسهم في صنع التقدم والريادة والتميز.
بقلم فهد بن صالح الفهدي