بينما يتجه العالم الى الفضاء الإلكتروني، تبرز فرصة للقادة لإعادة تشكيل بيئة العمل التي نعرفها اليوم.
مترجم بتصرف: مقال لكارلا صليبا
هناك أشياء قليلة في الحياة يمكن ان تدفع العالم للتوقف وأخذ مهلة جماعية. ويمكنني تذكر القليل من الأحداث التي وقعت خلال حياتي، مثل أحداث 11 سبتمبر المخيفة، أو الرعب الذي رافق الأزمة المالية التي أصابت العالم في 2008، إلا أن وباء الكورونا يعتبر حالة جديدة ومختلفة كليّاً. فالوباء وطريقة تعاملنا اللاحقة معه ستؤدي بشكل أساسي لتغيير نمط عملنا الذي نعرفه اليوم.
تدفعنا إجراءات الحجر الصحي وحالات الإغلاق والإلغاء الحالية إلى إعادة التفكير بنموذج العمل المعتمد، والعمل على التكيف مع المتغيرات فيه بسرعة. وفي مثل هذه الأوقات، يكون من الجيد علينا ألا ننسى أننا جميعًا نشترك في عامل واحد وهو أننا عالقون في هذا الأمر معاً، وأن الكلّ يواجه المصير المجهول نفسه. فجميعنا لا يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. ومما لا شك فيه أن العمل عن بُعد سيشكل تحدٍ في ظل هذه الظروف، إلا أن خيارات الامتثال نفدت جميعها من أمامنا، وبات من الضروري التعامل مع هذا الوضع عاجلاً وليس آجلاً.
وبالنسبة إلى غالبيتنا، تبقى فكرة العمل عن بُعد مجرد فكرة، لم يسبق أن طبقت على أرض الواقع. وسنجد أن بعض المؤسسات والشركات قد تبنت بالفعل إجراءات مرنة في العمل كأحد المعايير الأساسية المعتمدة لديها، بالتناغم مع أنماط الحياة المتغيرة. وشهدت الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها نمواً بنسبة 159% في عدد الأشخاص العاملين عن بعد في الفترة بين عامي 2005 و2017، وذلك بالتزامن مع تزايد القطاعات التي تبنّت هذا النوع من الثقافة. ورغم ذلك، ستظل هناك شركات تبذل قصارى جهدها الآن للحاق بالركب بعد أن تخلفت عنه بسبب إخفاقها في تكييف استراتيجياتها في الماضي، أو تسعى جاهدةً للانضمام إلى أحد القطاعات الرئيسة الرائدة في ظل هذا الوضع، مثل القطاعات العاملة في صناعة الأغذية أو اللياقة البدنية.
وبالنسبة إلى مثل هذه الشركات، ستواجه مجموعة مختلفة من التحديات التي يتعين عليها اجتيازها، دون النظر إلى هياكلها الإدارية والتنظيمية القديمة. ومع ذلك، فقد شهدنا بالفعل نماذج وأمثلة على شركات أصبحت مبدعة عندما طبقت استراتيجية العمل عن بعد. وقد قام مدربون شخصيون بتصوير جلسات ولقاءات إلكترونية وعرضها عبر شبكة الإنترنت، في حين نجد أن كبرى شركات الأغذية قد قامت بالابتكار في معدات وأدوات سهلة الاستعمال، أو قدمت عروضاً مجانية لتوصيل الطلبات، حتى يمكن للجميع الاستمتاع بالتجربة داخل المنزل. وقبيل الإغلاق، ربما لم يكن هذا يشكل جزءاً أساسياً من نموذج أعمالها، ولكن على الأرجح ستكون استجاباتهم وردة فعلهم الحيوية والنشطة عالقة في أذهان متعامليها فور انتهاء هذه الأزمة.
وهناك أمر واحد مؤكد وهو أن عملية التحول لن تكون سهلة. ولكن مع كل تحدٍ، هناك فرصة؛ فمع تحول أكثرية الشركات إلى العمل الإلكتروني، تبرز أمامنا فرصة سانحة لتنفيذ بروتوكولات فعالة للعمل عن بعد تتجاوز مجرد ردود الأفعال الخاطفة لانتشار الوباء، بل ومن شأنها أن تؤسس لمستقبل أفضل يغلب عليه التفكير الرقمي. وفي نهاية المطاف، يعود الأمر إلينا جميعاً لصياغة إطار عمل يمكن من خلاله نشر ثقافة العمل عن بعد، ليس باعتباره الملاذ الأخير أو حتى الخيار البديل، بل ربما باعتباره طريقة أساسية لدفع عجلة العمل نحو الأمام.
وإذا كانت هذه الفكرة تبدو جريئة جداً أو صعبة للغاية، فعلينا التفكير في الظروف التي وضعتنا في هذه المرحلة، وكذلك فيما أصبحنا نواجهه جميعاً الآن على مختلف الأصعدة العالمية، وبناءً عليه يجب أن تتغير الأوضاع وتتخذ منحى جديداً. وبينما كان مستقبل العمل يمثل أحد الموضوعات الآنية التي شغلت الأذهان (وهي إحدى الكلمات الترحيبية الرئيسة التي كانت تلقى في كل قمة من قمم المنتدى الاقتصادي العالمي)، لم ينبج سوى قلة من الأفراد في التنبؤ بالطريقة المتأججة التي أحدثها الوباء على نقاشات هذا الموضوع. نحن الآن في زمن الثورة الصناعية الرابعة، وما يعنيه ذلك من أدوات وتقنيات هذه الثورة التي نحتاجها لدفع نقاشات هذا الموضوع نحو الأمام، مما يستلزم معه اتخاذ الضمانات والإجراءات الوقائية بحيث إذا ما واجهنا أي شيء مماثل مرة أخرى، فسنكون أكثر استعداداً له بتكاتفنا معاً كأمة واحدة.
فحتى أوساط رواد الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر أكثر مرونة مقارنة بالشركات الكبيرة، أصبحت فرصتها سانحة اليوم لتطوير أسلوب عملها وتحسينه. كما أنهم أيضا في أفضل وضع لتوفير النصح والإرشاد لغيرهم من أجل إنجاح تجربة التحول إلى العمل عن بعد بصورة أكبر، لا سيما وأن الحدود الفاصلة بين العمل والمنزل ستستمر في التلاشي بطريقة طبيعية شيئاً فشيئاً، على الأقل في المستقبل القريب. وفي شركتي، Infographic.ly، اعتمدنا ثقافة العمل عن بعد الجزئي منذ تأسيس الشركة، وسعينا نحو التحول الكامل للعمل عن بعد أو للعمل المرن قبل بضع سنوات مضت. لذلك، بالنسبة إلى الشركات المماثلة لشركتنا، لا تزال عملياتنا تسير على ما يرام، رغم بعض التباطؤ في المردود نتيجة للمناخ الاقتصادي الحالي.
الأمر الواضح أمامي هو أنه دائماً ما تكون هناك دروس يمكن الاستفادة منها في أوقات الأزمات، ويتضح ذلك عند محاولتنا استجماع قوتنا مرة أخرى والتأقلم مع الأوضاع الجديدة كما فعلنا في السابق. ومع انقشاع الغبار خلال الأسابيع المقبلة، سنرى أن الكفاءات والفعالية ستبدأ بالبروز، بالتزامن مع إدراك الشركات أنه في غالبية الأحيان يمكن أن تستمر “الحياة المكتبية” في ظروف افتراضية. لقد شاهدنا جميعًا تلك المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن اجتماعات كان من الممكن أن تتم عبر رسائل البريد الإلكتروني، وإذا ما تركنا الجانب الفكاهي جانباً هنا، فسنكتشف حقيقة وراء هذه الكلمات. علينا أن نستغل هذه الفترة في مراجعة هيكل العمل الذي نطبّقه، وتحديد ما يجعلنا جميعًا أكثر مرونة عند تنفيذ عملياتنا. وبصرف النظر عن الإلهاءات اليومية التي تشتت انتباهنا، يمكن القول بإمكانية تحقق ذلك عندما نكون في أوج قدرتنا على الإبداع، وبعيدين تمام البعد عن حالة الرتابة العامة للحياة!
وحتى قبل أن يؤدي فيروس كورونا إلى إحداث هذا التغيير، كانت الديناميكية والسلاسة ميزتين منتشرتين بقوة على ساحة العمل؛ حيث لم تعد حياة المكاتب التي تبدأ من التاسعة صباحاً وتنتهي في الخامسة مساءً تمثّل الوسيلة الأكثر فعالية لقياس معدلات الإنتاجية؛ فعلى مر السنوات، كنا محظوظين بالعمل مع عدد من كبار العملاء العالميين (مجموعة بوسطن الاستشارية الأمريكية على سبيل المثال)، وكانت تتم دائمًا إدارة اتصالاتنا معهم عن بعد؛ فلم يحدث أن التقينا معاً مباشرةً وجهاً لوجه، ومع ذلك، ظللنا نعمل كامتداد لمكتبهم من خلال الدردشة عبر الإنترنت أو من خلال التواصل بالبريد الإلكتروني. وتعد هذه طريقة مجدية وفعالة في العمل تتيح للشركات توسيع نطاقها ومدى انتشارها، دون الاضطرار إلى الوجود الفعلي في كل سوق تنشط للعمل فيه.
يمتد هذا المبدأ نفسه ليشمل الموظفين أيضاً، حيث أفاد استطلاع للرأي أجرته شركة “بافر” في عام 2019 أن 99% من الموظفين الذين خضعوا للاستطلاع يرغبون في العمل خارج مواقع العمل في مرحلة معينة على الأقل من حياتهم المهنية. وبالنسبة إلينا، يعمل 60% من شبكة موظفينا من لبنان، وفي مثل هذه الأوقات، يمكننا أن نضاعف دعمنا للمواهب في المنطقة، وإتاحة فرص جديدة أمامها، لأننا نطبق هذه الثقافة بالفعل. ونرى أن هذا التفكير قد شاع أكثر بين الأمهات الجديدات أيضًا، ممن غالباً يسعون بكل قوة لتحقيق التوازن بين عملهن وحياتهن عندما يقمن بتكوين أسرة جديدة. وقد اكتشف اثنان من مصممينا أن العمل عن بعد قد منحهن أفضل ما في هذين العالمين، دون أن تتوقف عجلة حياتهن اليومية. وصدقاً، ستجد أن ذلك الطفل اللطيف الذي يظهر بين الحين والآخر على الشاشة عند إجراء المحادثات الإلكترونية سيؤدي إلى تحسن مزاجك.
في نهاية الأمر، لن يخرج أحد من هذه الظروف سالماً أو دون أن يطرأ عليه أي تغيير؛ فثمة مشكلة إنسانية خطيرة في وسط هذه الأزمة، وعلينا جميعًا أن نكون على دراية بكيفية تسطيح منحنى الإصابات من خلال الحدّ من تعاملاتنا مع الآخرين. لقد صرنا نشهد التداعيات الاقتصادية بالفعل وهي تحدث بالتزامن مع تفشي هذه الأزمة، بيد أنني أؤمن بوجه عام بأننا سوف نخرج من هذه الأزمة أكثر قوة ومرونة مقارنةً بأي وقت مضى. إنّ مفهوم “العمل المعتاد” لم يعد صالحاً للتطبيق في ظل هذه الظروف التي نعيشها اليوم، لذلك صرنا بحاجة إلى العثور على طريقة جديدة ملائمة لتشغيل شركاتنا وإنمائها، وهي الفرصة التي يمكن أن تتيحها لنا ثقافة العمل عن بعد، ولكن لن يتم لنا ذلك إلا إذا شارك الجميع في تبنّي هذه الثقافة وتطبيقها. وينبغي ألا نفكر في ذلك على أنه حل مؤقت، بل يجب النظر إليه باعتباره الطفرة القادمة في عالم العمل.
سيذكر التاريخ بالفعل أنّه في عام 2020، حبست الإنسانية وأوصدت الباب على نفسها، غير أنّي أظن أنّ هذا الوقت يجب أن يشير إلى أمر آخر أقوى بكثير؛ فهو العام الذي قلبنا فيه عالم العمل رأسًا على عقب، وولدنا من جديد بهيئة أفضل مقارنة بأي وقت مضى. من يتفق معي في ذلك؟