ظهر فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في فترة زمنية وجيزة كواحد من أكبر التحديات التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين. فقد اجتاح الفيروس العالم منذ انتشاره من بؤرة تكونه في الصين ليجتاح حاجز المليون مصاب ووفاة ما لا يقل عن 58,000 شخص في 189 بلد على الأقل وذلك على مدى الثلاثة أشهر من كانون الثاني/يناير2020 وحتى الآن، وجاءت تلك الأرقام في تقرير الأوضاع الصادر عن منظمة الصحة العالمية في 3 ابريل.
وبالإضافة إلى الخسائر الفادحة في الأرواح التي تسبب بها الفيروس، أدت إجراءات الاغلاق الكامل وغيرها من الإجراءات الصارمة لمواجهة انتشار الوباء الى تباطؤ النشاط الاقتصادي حول العالم، حيث ذكرت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن الاقتصاد العالمي قد يتباطأ بما نسبته 2.4% والذي سيعد أسوأ معدل نمو له منذ عام 2009 مما قد يجر العديد من البلدان إلى مرحلة الركود الاقتصادي. وما يزيد من تعقيد الوضع العالمي، صعوبة الاستجابة لهذا التحدي بسبب الجوانب الغامضة المحيطة بالفيروس من حيث انتشاره وكيفية معالجته.
بالرغم من المحنة التي يمر بها العالم حاليا بسبب الوباء، أقدمت بعض دول العالم مثل الصين والامارات العربية المتحدة إلى انتهاز الفرصة لتوظيف العديد من تطبيقات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والتعلم الالي على أرض الواقع لتتبع انتشار الوباء والتشخيص المبكر للمصابين وتسريع عملية اكتشاف العلاج وتعقيم الأماكن العامة وإدارة الازمة بفعالية مما يبرر العائد على الاستثمار الذي قامت به هذه الدول في البحث والتطوير في مجال علم البيانات والذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة الماضية.
فمع تزايد سرعة تراكم البيانات بوتيرة تفوق قدرة العقل البشري على معالجتها، أصبحت الحكومات مدركة إدراكا تاما بالضرورة الحتمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته المختلفة. بالإضافة الى ضرورة التنسيق والعمل المشترك خصوصا مع القطاع الخاص والأكاديمي من أجل توسيع القدرة الحالية للذكاء الاصطناعي وضمان قدرته على التعامل مع وباء فيروس كورونا المستجد. فقد قامت العديد من الشركات ومختبرات البحث والتطوير والمؤسسات الحكومية حول العالم باستخدام هذه التكنولوجيا للتعامل مع الوباء الحالي من خلال تكنولوجيات ذكية متعددة مثل معالجة اللغات الطبيعية والتحليلات التنبؤية وأنظمة الدردشة الالية وأنظمة التعرف على الوجوه والتعرف على الأشخاص المصابين بالحمى وتتبعهم وأنظمة التشخيص الذكية والتعرف على الأنماط وتحديدها من البيانات الضخمة. ومما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي يساعد الان في مكافحة وباء كوفيد-19 ويساهم في كبح أسوأ آثاره.
سيوضح هذه المقال سبع تطبيقات للذكاء الاصطناعي يتم استخدامها حاليا لمكافحة وباء كورونا.
- أنظمة التنبؤ والتحذير من الاوبئة
كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي أول ما رصد الزيادة غير الطبيعية في حالات الإصابة بذات الرئة في ووهان الصينية محذرة من حدوث وباء عالمي. فقد قامت شركة بلو دوت (BlueDot)، وهي شركة كندية متخصصة بالتنبؤ بانتشار الأوبئة والامراض المعدية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، بتوظيف أنظمة ذكية لرصد وتتبع انتشار فيروس كورونا والتعرف عليه والإبلاغ عنه بشكل أسرع من منظمة الصحة العالمية والمركز الأمريكي لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC). مثل هذه المنصات الذكية ستمكن الحكومات في المستقبل من الحصول على تحذيرات مبكرة والتنبؤ بخطر انتشار مثل هذه الأمراض المعدية قبل وقت حدوثها وتطورها بشكل فاعل واني باستخدام أنظمة ذكاء اصطناعي ومعالجة اللغات الطبيعية والبيانات الضخمة. هذه التقنيات قادرة على معالجة وتحليل التقارير الإخبارية والصحية بلغات مختلفة والبيانات الشخصية والطبية والاجتماعية وبيانات السفر بالإضافة الى عادات نمط الحياة المستمدة من وسائل التواصل الاجتماعي والتي ستتيح الحصول على تنبؤات أكثر دقة وتحديدا لبيان المخاطر الخاصة بالأفراد ونتائج الرعاية الصحية.
في حين أنه قد تكون هنالك مخاوف بشأن الانتهاك المحتمل للخصوصية والحريات المدنية للأفراد، فإن لوائح السياسات التي واجهتها تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأخرى ستضمن استخدام هذه التقنية على نحو مسؤول.
- أنظمة الدردشة التفاعلية الذكية
أثبت وباء كورونا أن منظومة الرعاية الصحية الحالية في معظم دول العالم غير جاهزة لتحمل العبء المصاحب لمثل هذه الأوبئة بسبب الضغط الناتج عن الاستفسارات والاتصالات المكثفة من الجماهير والتي تفوق قدرة المنظومات الصحية على الاستجابة في الوقت المناسب. وفي هذا الصدد قامت مجموعة ستاليون ايه أي (Stallion AI) المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، من استخدام نماذج تعلم الالة ومعالجة اللغات الطبيعية لتطوير أنظمة دردشة تفاعلية افتراضية متعددة اللغات تعمل على مدار الساعة للاجابة عن الأسئلة المتعلقة بالوباء، وتوفير معلومات موثوقة وإرشادات واضحة، واجراء فحص يومي لغايات الوقاية، والتوصية بإجراءات الحماية والتحقق من الأعراض ومراقبتها وتقديم المشورة للأفراد فيما إذا كانوا بحاجة فحص في المستشفى أو عزل ذاتي في منازلهم.
- أنظمة التشخيص المبكر الذكية
يمكن للذكاء الاصطناعي تشخيص الاصابة بفيروس كورونا لتحديد المصابين بشكل دقيق وسريع ومبكر وبالتالي مساعدة الجهات المختصة لاتخاذ التدابير والاجراءات اللازمة بسرعة كافية للتصدي للمرض مثل إجراءات الحجر الصحي لكبح ازدياد انتشار العدوى وتقديم الرعاية الصحية اللازمة للمصابين في الوقت المناسب.
لقد قلص الذكاء الاصطناعي من زمن التشخيص المتعلق بفايروس كورونا، وذلك من خلال بعض التقنيات الذكية كتلك التي طورتها شركة لينكينج ميد (LinkingMed) الصينية، والمتخصصة بتحليل البيانات والصور الطبية. إذ يمكن حاليا تشخيص الالتهاب الرئوي، وهو أحد المضاعفات الشائعة للإصابة كوفيد19 , عبر التشخيص من خلال تكنولوجيا التعلم العميق والتي تعمل على معالجة وتحليل الصور المقطعية المحوسبة للنسيج الرئوي في أقل من ستين ثانية بدقة مرتفعة تصل إلى 92% وبمعدل استرجاع يصل إلى 97% على مجموعات بيانات الاختبار. ومن شأن هذه التكنولوجيا أن تساعد في التقليل من الضغوطات التي تتعرض لها اقسام الاشعة لتشخيص حالات المرضى وتسريع عمليات التشخيص وبالتالي الحد من انتشار الفايروس.
- تكنولوجيا التعرف على الوجوه والكشف عن الحمى
تعد الكاميرات القائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي من أكثر التكنولوجيات المطبقة لمكافحة الوباء الحالي. فهذه الكاميرات الذكية منتشرة اليوم في معظم مطارات العالم والمستشفيات والأماكن العامة وما إلى ذلك، وهي قادرة على التعرف على الوجوه حتى لو كان الناس يرتدون الأقنعة، ومسح الحشود بحثا عن المصابين بالحمى (كونه العارض الأكثر شيوعا) من خلال قياس حرارة المئات من الأشخاص وتعقب تحركاتهم والتعرف على المخالفين من خلال الكشف عما إذا كان الشخص يرتدي قناع وجه. وقد تم استخدام هذه التقنية في “الخوذة الذكية” والتي يقوم باستخدامها افراد الامن في الصين للتعرف على الأشخاص المصابين بالحمى في نطاق ٥ أمتار وقياس درجة حرارة المئات من الأشخاص في اقل من دقيقتين.
- الطائرة المسيرة والروبوتات الذكية
لقد تسارعت خطى استخدام الطائرات المسيرة والروبوتات في الأماكن العامة بسبب الإجراءات الصارمة للتباعد الاجتماعي اللازمة والمساعدة في جهود احتواء الوباء. ولضمان الامتثال لتلك الإجراءات، تستخدم بعض الدول مثل الصين والامارات العربية المتحدة الطائرات المسيرة لتعقب الأفراد الذين لا يستخدمون قناع وجه في الأماكن العامة، ونقل المواد الطبية وبث المعلومات إلى الجماهير عبر المكبرات الصوتية وتعقيم الأماكن العامة أيضا.
فقد ساهمت مايكرومالتيكوبتر (MicroMultiCopter)، وهي شركة تقنية ومقرها في شين زهين في الصين، في الحد من خطر انتقال الفيروس، وذلك من خلال نشر مئات من الطائرات المسيرة التابعة لها لنقل وايصال العينات والمواد الطبية ومواد الحجر الصحي على نطاق المدينة لتجنب العدوى. كما واستفاد قسم العناية بالمرضى من استخدام الروبوتات في تسليم الأغذية والأدوية دون تعريض العاملين في الرعاية الصحية للخطر، وشغلت الروبوتات الأدوار المنوطة بتنظيف الغرف وتعقيم أقسام العزل. ووسعت شركة بودو (Pudu) التقنية المختصة بصناعة خدمات الطعام، من نطاق وصولها إلى قطاع الرعاية الصحية بواسطة نشر روبوتات في أكثر من 40 مستشفى لهذه الأغراض. كما قامت شرطة دبي (Dubai Police) في الامارات باستخدام الطائرات بدون طيار لمراقبة مناطق التغطية ومخاطبة الجمهور من خلال مكبرات الصوت وتعقيم الأماكن العامة والتحقق من تطبيق القرارت المتعلقة بضرورة الاخلاء المؤقت في بعض الأماكن العامة وغيرها من التطبيقات التي تساعد في الحد من انتشار الفيروس.
- أنظمة الذكاء الاصطناعي في البحوث العلاجية
يعد عامل المجهول من أكثر العوامل كلفة للحكومات والعالم اجمع. فعدم وجود علاج نهائي لفيروس كورونا هو مصدر قلق لجميع الاوساط والقطاعات كما انه يدفع الحكومات لاتخاذ إجراءات احترازية لمنع تفشي الوباء والذي كلف العالم التريليونات من الدولارات حتى يومنا هذا بسبب فرض الاغلاق العام في معظم دول العالم. إلا انه من المحتمل أن يغير الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة. فباستخدام خوارزميات التعلم العميق، يمكن اليوم البحث بسرعة ضمن ملايين البنى البيولوجية أو الجزيئية لإنتاج الكثير من العقاقير المحتملة والتي يمكن للعلماء تفحصها لتحديد النتائج ودراستها فعاليتها. فحقّقت الشركة البريطانية اكسسينتا (Exscientia) هذا العام تقدمًا جزيئًا في تصميم عقّار اعتمد إنتاجه على الذكاء الاصطناعي، وخضع للتجارب على البشر. حيث استغرقت خوارزميات التعلم العميق عام واحد لتطوير التركيب الجزيئي، مقارنة بمتوسط زمني مقداره خمس سنوات تستغرقه طرق البحث التقليدية. وفي السياق نفسه، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقود الجهود الرامية لتطوير الأجسام المضادة واللقاحات للفيروس المستجد، سواء بتصميمه كليا من الصفر أو بإعادة استخدام الأدوية المطروحة.
كما تعمل ديب مايند (DeepMind)، وهي شركة ذكاء اصطناعي تابعة لجوجل، على استخدام نظام ألفافولد (AlphaFold) على تصنيع نماذج بنية البروتينات المرتبطة بالفيروس سعيا منها إلى مساعدة الوسط العلمي على فهم الفيروس. وعلى الرغم من أنه لم يتم التحقق من النتائج تجريبيا إلا أنها تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح.
- أنظمة التحقق من المعلومات الخاطئة
أدت حالة القلق التي تنتاب العالم اجمع بسبب انتشار الفيروس إلى نشر الأفكار الخاطئة أو المغلوطة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين أنه لم يتم إجراء تقييم كمي لمقدار المعلومات المغلوطة، إلا أنها تمثل رقما لا يستهان به بكل تأكيد. ولذلك، يعمل عملاقا التكنولوجيا غوغل وفيسبوك على استخدام الذكاء الاصطناعي لمكافحة الموجات المتعلقة بنظريات المؤامرة والتصيد الاحتيالي والتضليل الإعلامي والبرمجيات الضارة. كما يقوم يوتيوب، من ناحية أخرى، بالبحث عن مقاطع الفيديو التي تحوي معلومات خاطئة وإزالتها بمجرد تحميلها. بالإضافة الى ربط المستخدمين بشكل مباشر بمنظمة الصحة العالمية وبمنظمات مماثلة تقدم معلومات موثوقة حول الوضع الراهن.
الدروس المستفادة
بالرغم من الصراع الذي يعيشه العالم اليوم بسبب الاثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لوباء كورونا، الا ان هذه التجربة ستزيد من مناعة الأنظمة الصحية العالمية وتكسبنا الخبرة اللازمة لمواجهه الأوبئة المستقبلية. فقد وضع هذا الوباء دول العالم أمام اختبار حقيقي على ارض المعركة وعلمها كيف تتحد وتعمل بشكل مشترك لتدير وتكافح أزمة الوباء. وجعلها تدرك اهمية الاستثمار في البحث والتطوير في مجال البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية لدورها الملموس في التنبؤ والتشخيص واكتشاف العلاج وخصوصا بعد التطبيق الناجح (جزئيا) للصين لهذا التقنيات وقدرتها على مكافحة الوباء بفعالية واحتواء انتشاره خلال فترة قياسية.
كما جعلنا كورونا أن ندرك اهمية كوادرنا الطبية وبسالة العاملين في مجال الرعاية الصحية وأهمية باحثي وعلماء ومهندسي الذكاء الاصطناعي والبيانات (التي اثبتت انها تقنيات مكملة لمساعيهم) لإيجاد الحلول التي يحتاجها العالم بشدة خصوصا في ظلّ هذه الظروف العصيبة.
ترفع القبعة للكوادر الطبية والباحثين والمهندسين ورجال الامن الذين ما زلوا يبذلون كل الجهود لمكافحة هذا الوباء.