فهد بن صالح الفهدي
تتراود لدى الكثيرين في هذه المرحلة، أسئلة عدَّة حول الوضع الذي سيؤول إليه العالم اقتصاديا، بشرياً وسياسياً، بعد جائحةِ كورونا؟ ماهي الإجراءات التي ستتخذها الحكومات؟ والكثير من الأسئلة التي تعكس توتّر العالم من المستقبل القادم.
وقد راود نفسي سؤال: هل تشاءمت اليابان بعد ما واجهت واحدةٌ من أعظم الكوارث في التاريخ والمتمثلة في إلقاء القوات الأمريكية في مدينتي هيروشيما ونجزاكي في أغسطس من عام ١٩٤٥ ؟ تلك الإبادة التي (دكَّت) المدينتان وسكانهما، ودمَّرت مصادر الاقتصاد وكل ما تعتمدُ عليه هيروشيما ونجزاكي، للدرجة التي جعلت العالِم هارولد جاكوبسن يقول آن ذاك أنها لن تصلح للعيش أو الزراعة لمدة 70 عاما.
نعم لقد كانت خسارة اليابان فادحةً أدَّت إلى استسلامها، ورضوخها تحت شروطٍ مذلَّة، لكنها إستطاعت أن ترى ثُقب الضوء الذي يبُث التفاؤل، ألا وهو الإنسان. الإنسان الياباني الذي تحوَّل إلى محور النهضة الحديثة في اليابان، فلم يكن توجهها الأول مرتكزاً لبناء المتهدم، بل كان لبناء إنسان ياباني جديد عبر إعادة بناء منظمومة التعليم بمختلف مراحلها.
لم تكن مهمة سهلة لدولة فقيرة تهدم إقتصادها وقد خرجت لتوّها من هزيمتها في الحرب لتنفيذ هذه الإصلاحات، ولكن تقرر المضي قدما في تنفيذها بالكامل لإيمانها بأن الحروب لن تجدي نفعاً لشعبها، بل بناء إقتصادٍ قوي ينهض بالشعب الياباني عبر الإعتماد على الإنسان نفسه. وبذلك أستطاعت اليابان أن ترسم لنفسها صورةً جديدة في خارطة العالم.
ما نستنتجه من هذه التجربة، هو أن التفاؤل مطلبٌ مهم في هذه المرحلة، وبعد إنتهاء هذه الأزمة بعون الله، فإنَّ الشيء الوحيد القادر على النهوض بإقتصادات البلدان التي تأثرت بشدة هي كفاءاتها البشرية بواسطة التعليم؛ فالتعليم عاملٌ مهم في بناء الكفاءات المستقبلية التي تمكّن البلدان من صنع أجيال قادرة على بناء بلدٍ قوي، متنوع الاستثمارات، متعدد المصادر للدخل الوطني.
لقد استطاعت اليابان أن تحوّل المحنة إلى منحة، استطاعت أن تشخِّص الإشكالية الحقيقية للنهوض بشعبها ورسمت خطة مستقبلية عبر (إستشراف المستقبل والتخطيط الإستراتيجي).
يقول الكاتب حسين أبو راشد: “لم يقتصر النظام التعليمي في اليابان على الكتب المنهجية التي طُوِّرت لتقدِّم للطفل الصغير قدراً هائلاً من المعرفة والعلوم التي يتميّز بها الطفل الياباني عن غيره من أطفال العالم، بل تم توسيعها لتشمل اللامنهجية عن طريق دفع الطالب إلى الابتكار والاختراع والبحث عن كل ماهو جديد”
ولكن لم يكن بمقدور الإدارة التي قادت قرارات الحرب أن تتوصل لهذه القرارات، بل هي نتاج إدارة حديثة، آمنت بأن نهوض اقتصادها من خلال المورد البشري وليس باستخدام السلاح، لذلك ابتكرت منهجاً يحفّز الطالب الياباني لأن يكون عقلاً مبدعاً ومبتكراً.
تعيد الحكومات والمنظمات النظر إلى رؤيتها المستقبلية في وقت الأزمات، وهو أمر إيجابي يعكس كفاءة القيادات وقدراتها على توجيه الدفّة لطريقٍ يضمن الأمان والإستدامة المستقبلية، ومن هذه القرارات المهمة، توجّه الكثير من الحكومات والشركات وهي في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية على رفع الإنفاق في الأبحاث والتطويرResearch & Development ، على سبيل المثال صرّح مؤخراِ مستشار الخزانة البريطاني ريشي سوناك أن استثمار الحكومة في البحث والتطوير سيرتفع إلى 22 مليار جنيه إسترليني سنويًا بحلول 2024-25 – بزيادة 4 مليارات جنيه إسترليني عن الموازنة التي تعهد بها حزب المحافظين. وتمثل هذه الموازنة أكبر زيادة في الإنفاق على البحث والتطوير المعلن عنها على الإطلاق من ميزانية جديدة. كما أضاف نقطةً ستوسّع أهمية الأبحاث والتطوير وهي أن تشمل الميزانية الجديدة على أبحاث لتطوير الحوسبة السحابية (cloud computing…. ( وهي التقنيات التي تعتمد على الشبكة بشكل كلي في تقديم خدماتها، وبالتالي فإن الحكومة ستتمكن من تحقيق هدفها الأساسي لتشجيع الإبتكار في القطاع الحكومي والخاص لما له من أثر كبير في إنقاذ إقتصاد البلد تحت أية أزمة، يقول جون ماكسويل: “الأحلام والتطلعات في الأوقات العادية تسكن في الأفق، وفي الأزمات ترتفع مكانتها لأعلى من ذلك”، أي تزداد أهميتها بأكثر مما سبق من أي وقت من الأوقات. وهذا سيكون درساً بالغ الأهمية للمنظمات في القطاع الحكومي والخاص والتي لم تخطُ إلى الآن نحو الاستثمار في الأبحاث والتطوير من أجل أن يكون هذا الجانب ذا أهمية في خططها القادمة.
على الحكومات أن تُنشأ أجيالاً ترى الأزمات -رغم آثارها- فرصة كبيرة للنمو والتطور، وتتعلم رؤية الضوء في نهاية النفق، وتستفيد من تجارب البلدان التي قامت بعد الإنهيارات الاقتصادية، والعوامل التي أسهمت في نهوضها مجدداً.
ولا ريب إنَّ الدول ستقوم إن عِزمت على أن تتعلم من الدروس، وعلى الأفراد أن يساهموا في ذلك، فالآثار تلمس الجميع، ولن تقوم البلدان إلا بجهود سواعدها، وبالإيمان العميق بأن عليها أن تحدث التغيير ليسهِّل الله لها طريقه، مصداقاً لقوله تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”(الرعد:11) صدق الله العظيم.