فهد بن صالح الفهدي
تأتِي الأزمات الاقتصادية مثل الركود المالي أو الأوبئة- بردَّة فعل تغيِّر توجهات الحكومات، والشركات ومسار التاريخ بشكل عام. وبالرَّغم ممَّا تخلِّفه من خسائر قد تكون بشرية ومادية إلا أنها بلاشك ترسم خارطة جديدة لواقعٍ جديد.
ولا رَيْب أنَّ الأزمات المفاجئة تكشفُ عن الحكومات والشركات التي كانت على أهبّة الاستعداد، بعدما استشرفت المستقبل فاستعدت له، وحققت استدامة في أدائها.
لقد بَرَزت مُؤخراً العديد من النماذج التي حققت -في ظل الأزمة الحالية- نجاحا في خدماتها، بل وسجَّلت ارتفاعاً في دخلها، يقول ألبرت آنشتاين: “في منتصف الصعوبة تكمن الفرصة”.
إنَّ المنظمات القائمة على البيروقراطية السلبية كانت أمام تحدٍّ جادٍّ في استدامة أعمالها عند وقوع الأزمات؛ حيث يعرف عن المؤسسات البيروقراطية بأنها قائمة على قرارات كبار الموظفين، وعلى التعاطي السلبي للعملية البيروقراطية؛ مما يُنتج -بمرور الوقت- روتينا، وتعقيدات لا نهاية لها.
لكن أزمة جائحة كورونا لم تدع مجالاً لهذه البيروقراطية السلبية؛ حيث تطلبت المرحلة قرارات سريعة وتحركاً عملياً أكثر من أي وقت مضى، قائماً على الابتكار والإبداع وهو ما قلّص فكرة القرارات الفردية، على سبيل المثال ما حدث في الصين -بلد تفشّي الوباء- التي لم تكن لتتخطى الأزمة لولا قراراتها السريعة واحتواء تفشي الفيروس الوبائي بفترة وجيزة؛ حيث حطمت الصين الأرقام القياسية ببناء مستشفى بلغت مساحتهُ 645٫000 قدم مربع في 10 أيام فقط في مدينةِ ووهان.
وفي الجانب الآخر، قادتْ جارتها كوريا الجنوبية اختبارًا سريعًا لأكثر من 200٫000 من مواطنيها، واستخدمت الهواتف الذكية لوضع علامة على حركة المصابين، لتنبيه غير المصابين بهذه التحركات عبر التحديثات في الوقت الفعلي. هذه الابتكارات والقرارات لم تكن لتحدث بين ليلة وضحاها لولا جاهزية البُنية الإدارية والمعرفية لهذه القرارات.
وفي جانبِ تعطيل الأعمال وحظر التجوال عند بعض البلدان، برزت الحكومات التي تم استثمار بنيتها التحتية لتوفِّر خدماتها إلكترونيا، متوافقةً مع عصر الثورة الصناعية الرابعة، وموفّرة الراحة والسهولة للمستفيدين.
وفي حين اختارت بعض الحكومات خفض الإنفاق على الحكومة الإلكترونية، وخفض وتيرة تنفيذ مشاريعها، اختارت حكومات أخرى -على عكسها- اغتنام هذه الفرصة لتسريع وتيرة تنفيذها.. تقول بابرا أوبلادي: “استخدمت العديد من البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي الأزمة لإعادة تركيز برامج الحكومة الإلكترونية لديها؛ وقد اختارت بعض البلدان رسميًّا إدراج الحكومة الإلكترونية كجزء من حزم التحفيز والإنعاش الخاصة بها”.
ويعكس كلام بابرا الإشكالية التي تقع فيها بعض الحكومات وهي قُصر النظر إلى المستقبل، غير مدركة تقدم العالم وغير متنبأةً بالأزمات التي قد تأتي مستقبلا مثل أزمة جائحة كورونا التي يمر بها العالم الآن، والتي انعكست سلباً على اقتصاداتها لأنها فقط لم تؤمن بأهمية المستقبل.
لقد كانت الحلول الحديثة لبعض الشركات مثل العمل عن بُعد، من أهم القرارات التي أُجبرت بعض الشركات على تنفيذها، والتي كان قرار العمل بها صعباً عند بعضها، خوفاً من أن تضعف إنتاجية الموظفين؛ وبالتالي تؤثر على أداء المؤسسات، ناهيك عن الإدارات التي تهمها قضيَّة مواقيت الانصراف والحضور أكثر من الإنتاجية، فقد كان يشكل القرار كابوسا مُخِيفاً لهم. لكن وعلى عكس المتوقع كانت لهذه التجربة العديد من النتائج الإيجابية التي تستحق التوقف عندها، وتقييم نتائجها الإيجابية والسلبية، مما قد يعيد تفكير العديد من المؤسسات والشركات التجارية في ميزةِ العمل عن بُعد بعد هذه الأزمة، والذي كان من نتائجهِ زيادة أعداد التوظيف في العالم، على سبيل المثال: اضطرت شركة مستحضرات التجميل Lin Qingxuan إلى إغلاق 40% من متاجرها خلال الأزمة؛ بما في ذلك جميع مواقعها في ووهان. ومع ذلك، أعادتْ الشركة نشر أكثر من 100 من موظفي التجميل في تلك المتاجر ليستمروا بعملهم التسويقي على الإنترنت باستخدام أدوات رقمية؛ مثل: برنامج التواصل الاجتماعي WeChat، لإشراك العملاء فعليًّا وزيادة المبيعات عبر الإنترنت. ونتيجة لذلك؛ حققت مبيعاتها في ووهان نموًا بنسبة 200% مقارنة بمبيعات العام السابق.
إنَّ أهم الدروس التي تستفيدُ منها جهات العمل في القطاعين الحكومي والخاص؛ هي: أهمية وجود جهة أو هيئة تُعنى باستشراف المستقبل والتخطيط الإستراتيجي، والذي بدوره سيعطي مؤشرات مستقبلية لمدى كفاءة المنظمة على إدارة الأداء في ظل التحديات وتقصي المشكلات والحلول التي يمكن وضعها (بتكلفة اليوم) للحفاظ على ديمومة العمل وسرعة الاستجابة؛ حيث تتطلَّب هذه الأزمات سرعةً في اتخاذ القرارات على أساس مدروس نتيجةً التخطيط المُسبق. والاستشراف العلمي للمستقبل؛ مما يكون له انعكاسٌ إيجابيٌّ على التخطيط الإستراتيجي؛ حيث إنَّ نسبة نجاح الخطط الإستراتيجية تكون أكبر عندما تكون مستندةً إلى استشرافٍ علمي ممنهج.