بقلم: أريج الشكر، نائبة الرئيس الأول ورئيسة قسم خدمات التنمية في بنك البحرين للتنمية، وقائدة فريق إدارة صندوق الصناديق «الواحة»
عادةً ما يتم اللجوء إلى دفاتر الحسابات والأرقام المالية لفهم أسباب فشل أحد المشاريع الناشئة والحصول على الإجابات، لكن سبب الفشل ليس مقترناً دائماً بضعف الأداء الاستراتيجي.
فالعلّة في فشل العديد من الشركات الناشئة تعود غالباً إلى أداء مؤسسيها، الذين نسوا الكثير من الأمور الهامة في زحام حماستهم لتطوير الشركات التي أسسوها.
فبعد تحقيق النمو الأوّلي السريع الذي تقوده عادة شخصية المؤسس القوية المندفعة، يمكن للمشروع الناشئ أن يسقط بسرعة في فخ استنزاف الأموال وإنهاك الكوادر بسبب عدم قدرة هذه الشخصية على ترسيخ ثقافة مؤسسية داعمة تحقق رؤية الشركة الصاعدة وتدمج موظفيها الذين يشكلون العامل الأساسي في تحويلها من فكرة إلى واقع.
والتحدي آنذاك ليس في الاستثمار في الأفكار بل في الاستثمار في تمكين فرق العمل المحيطة بمدراء المؤسسات الذي وجودوا أنفسهم فجأة في مواقع الإدارة العليا دون امتلاك مهارات التواصل مع كادر العمل من حولهم. وهذه مهارات أساسية مطلوبة لتعزيز الثقافة المؤسسية الداخلية، وتنمية المواهب فيها، وصولاً إلى توفير بيئة عمل مستدامة وداعمة للموظفين الذين يبذلون قصارى جهودهم لإنجاح المشروع الناشئ وضمان استمراريته.
فعندما يستخدم أحد العملاء تطبيقاً ذكياً، قد يبدو الأمر كعملية بسيطة وسلسة، لكن الحقيقة هي أن وراء هذا التطبيق طيف واسع من التخصصات والمهارات المختلفة المطلوبة، من مهندسي البرمجيات، وفرق دعم المستخدمين، وصولاً إلى موظفي الاستقبال في الشركة. لكن مع تعطّش مؤسسي المشاريع الناشئة لمزيد من النمو والتمويل والنجاح، قد ينسى هؤلاء في خضم السعي لتحقيق رؤيتهم نصيب موظفيهم الذين يجعلون تلك الرؤية منتجاً ملموساً.
وبالمحصّلة، فإن وصفة النجاح تكمن في الاختيار الصحيح لفريق العمل المطلوب من جهة، واستعداد مؤسس المشروع الناشئ من جهة أخرى للإصغاء لفريق عمله. وهذا يعني إيجاد تكامل نوعي بين مختلف المهارات التي نادراً ما تجتمع في شخص واحد دون أن يتحول إلى مدير مركزي يبالغ في الرغبة بالسيطرة على كل القرارات. وعلى سبيل المثال، لا فائدة من توظيف مدير مالي حريص إذا كان مؤسس المشروع الناشئ مبدعاً فوضوياً لا يصغي إلى نصائح مستشاريه بأن الموارد المالية على وشك النفاد.
لقد بدأنا نشهد إدراكاً متزايداً لهذه المعضلة. وأصبح المستثمرون اليوم يدققون في الثقافة المؤسسية الداخلية للشركة وفرق عملها وتعامل كوادرها مع بعضهم البعض أفقياً وعامودياً. وهناك توجه حالياً بين المستثمرين لتعزيز مهنية المشاريع الناشئة بمجرد وصولها إلى حجم معين، وذلك بتطعيم مجالس إدارتها بمسؤولين من مؤسسات أكثر نضجاً وخبرة.
وكانت النقاشات في معظم الأوساط الاقتصادية تدور خلال السنوات الـ10 أو الـ15 الماضية حول كم الدروس التي يمكن تعلمها من ثقافة تأسيس المشاريع الناشئة، مع تجاهل شبه كامل من القطاعات الاقتصادية والمستثمرين للسلبيات التي قد تحملها هذه الثقافة، لكن هذا الأمر يتغير اليوم. وشركات التكنولوجيا التي اعتادت الاعتزاز بإحلالها نماذج عمل جديدة وثورية تدرك اليوم تدريجياً قيمة تحمل المسؤولية المؤسسية على مختلف المستويات.
وفي هذا السياق، تعمل بنوك ناشئة ضمن قطاع التكنولوجيا المالية في المملكة المتحدة مثل (مونزو وريفولت) على استقطاب كفاءات لمجالس إدارتها من مؤسسات عريقة في عالم الخدمات المالية مثل (اتش اس بى سي، وباركليز، وقولدمان ساكس)، وتخصص أقسام كاملة في هيكليتها للثقافة المؤسسية وإدارة الموارد البشرية، بما يساعد قياداتها على فهم وتقدير منظومة الكفاءات والمكافآت في المؤسسة، ويمنع في الوقت ذاته حصول انحراف في مسار المؤسسة تبعاً لهوى أحد كوادرها أو مسؤوليها.
وبالمحصّلة، يمكن للمبتكرين أصحاب الأفكار الإبداعية أن يؤسسوا مشروعاً ناشئاً، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم قادرون دائماً على إدارته من الألف إلى الياء. وقد بدأ المستثمرون والموظفون يلاحظون ذلك. وفيما ستعتمد الاستثمارات دائماً على حجم العائدات وكفاءة الأداء، يركز المستثمرون اليوم أكثر فأكثر على توأمة تحمّل المسؤولية الإدارية مع تواجد ثقافة مؤسسية راسخة داعمة للموظفين.
لقد أنتهى عصر المبدع الفوضوي، والمستقبل هو لمؤسسي المشاريع الناشئة الصادقين مع أنفسهم الذين يعترفون أنهم غير قادرين على إدارة كل شيء بمفردهم.