أسامة عشري
المملكة العربية السعودية أرض خصبة، اقتصادها مزدهر وفرصها مثمرة في العديد من المجالات، ينطبق ذلك أيضا عندما يتعلق الأمر بريادة الأعمال. أشار تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال لعام 2019، أن حوالي 76.3٪ من السكان البالغين في المملكة العربية السعودية يدركون فرصًا جيدة لبدء عمل تجاري – حيث احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة الثانية من بين 49 دولة شملتها الدراسة.
وتعتمد رؤية السعودية 2030 على ثلاث محاور أساسية، وهي: مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح. يهدف المحور الثاني على وجه التحديد – اقتصاد مزدهر – إلى تحفيز الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، وما يؤكد أيضًا على أهمية المنشآت المتوسطة والصغيرة باعتبارها محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي ” إذ تعمل على خلق فرص العمل، وتدعم الابتكار، وتعزز الصادرات”. ومن التزامات رؤية السعودية 2030 في هذا الجانب هو زيادة مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية من 20٪ إلى 35٪ بحلول عام 2030.
الحاجة إلى منظومة متكاملة
لتعظيم الاستفادة من الفرص المتعددة وتحقيقاً لالتزامات رؤية السعودية 2030 المذكورة أعلاه، هناك حاجة إلى منظومة متكاملة لريادة الأعمال، حيث تعمل هذه المنظومة على توفير السياسات والإجراءات الممكنة، وإيجاد قنوات تمويل مناسبة للمشاريع الريادية والمنشآت المتوسطة والصغيرة، وخلق ثقافة محفزة وداعمة لرواد الأعمال، وإيجاد مجموعة من آليات الدعم (بما في ذلك البنية التحتية ومسرعات وحاضنات الأعمال)، وتطوير رأس المال البشري القادر على بناء منشآت ريادية، بالإضافة إلى وجود الأسواق المناسبة والداعمة للمشاريع الريادية. تشمل هذه المنظومة مجموعة من أصحاب المصلحة الرئيسين، مثل الجامعات والشركات الكبيرة ورؤوس الأموال الجريئة ورواد الأعمال، ويتمثل الدور الرئيسي لأصحاب المصلحة في تنمية عناصر منظومة ريادة الأعمال المذكورة أعلاه بهدف تمكين إنشاء المنشآت الناشئة والصغيرة والمتوسطة ونموها.
وانطلاقاً من التزامات رؤية السعودية 2030 لدعم ريادة الأعمال وقطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، بدء العمل على ترجمة هذه الالتزامات إلى أرض الوقع من خلال مجموعة من المبادرات المحفزة والداعمة وزيادة التمويل اللازم. فعلى سبيل المثال، قامت الحكومة السعودية بضخ مبلغ قيمته 72 مليار ريال سعودي لتحفيز القطاع الخاص، وتم تخصيص جزء كبير من هذا المبلغ لبرامج ومبادرات مختلفة تدعم نمو قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، مثل استرداد الرسوم الحكومية، وصندوق حكومي للاستثمار الجريء، والتمويل غير المباشر للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتمويل الصادرات. إضافةً إلى ذلك، أنشأ صندوق الاستثمارات العامة صندوق استثماري برأس مال قدره 4 مليارات ريال سعودي (صندوق صناديق) بهدف جذب مشاركة القطاع الخاص من خلال الاستثمارات في صناديق رأس المال الجريء وكذلك الملكية الخاصة.
كما تم كذلك إطلاق برنامج (مِراس) الذي يوفر جميع الخدمات المقدمة من الجهات الحكومية والقطاع الخاص التي يحتاج إليها رواد الأعمال وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة لإنشاء مشروع تجاري في فترة وجيزة. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت) والتي تشمل التزاماتها إزالة العقبات الإجرائية، وتيسير الوصول إلى التمويل، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة في تسويق المنتجات والخدمات وتصديرها، وتمكين الكيانات الوطنية من التعاون مع أصحاب المصلحة المعنيين. ويعكس كل ما سبق ذكره جهود حكومة المملكة المدروسة لإجراء تغييرات إيجابية من خلال منظومة ريادة أعمال متكاملة وممكنة.
استنادًا إلي رؤية السعودية 2030 الطموحة، قامت عدد الجهات، من القطاعين العام والخاص وكذلك القطاع الثالث، بتصميم وتنفيذ مجموعة من المبادرات والبرامج لتسريع نمو منظومة ريادة الأعمال في المملكة العربية السعودية. فيما يلي بعض الأمثلة التي تعكس هذا التطور المتسارع.
رأس المال البشري ضرورة إستراتيجية لنمو منظومة ريادة الأعمال المحلية من أجل تطوير ودعم المواهب اللازمة، وفي هذا الجانب تلعب مؤسسة “مسك” الخيرية دورا محورياً. ومن أبرز الأمثلة هو برنامج مسك الابتكار بالتعاون مع ٥٠٠ “ستارت أب”، الذي استطاع توظيف تقنيات ومنهجيات “وادي السيليكون” الشهيرة لدعم المنشآت الريادية المشاركة في البرنامج من المملكة العربية السعودية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك بهدف جذب الاستثمارات لنمو المشاريع. كما أطلقت “مسك” الابتكار مبادرة “السعودية تبرمج” بالشراكة مع وزارة التعليم ووزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، وكذلك شركة الاتصالات السعودية، حيث استطاع البرنامج استقطاب أكثر من مليون شخص للمشاركة في المبادرة التي تقوم بتدريس مهارات البرمجة الأساسية. من جانب آخر، تم تنظيم فعاليات هاكاثون متعددة شارك فيها آلاف المطورين والمبرمجين. ومن الأمثلة البارزة على ذلك “هاكاثون الحج” الذي نظمه الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز، والذي دخل موسوعة غينيس لأكثر عدد من المشاركين، حيث شارك ما يقارب 3000 مطور ومبرمج من 100 دولة.
تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة والمبادرة الداعمة لها من العناصر الهامة لنمو منظومة ريادة الأعمال. مليار ريال سعودي هو حجم المحفظة المالية لدعم المبادرات في القطاع التقني، كمبادرة وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات ضمن اتفاقية تعاون تم توقيعها مؤخراً مع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية. يستهدف الصندوق المستثمرين ورواد الأعمال في مجال التقنية والجهات الحكومية والمسرعات والمبرمجين ومطوري التطبيقات الذكية التقنية في المملكة العربية السعودية. من جانب آخر، وقعت الشركة السعودية للاستثمار الجريء، التي تم إطلاقها مؤخرًا، أكثر من 10خطابات التزام للاستثمار في صناديق استثمار جريء. كما استثمرت فيما يقارب 14 شركة ناشئة من خلال أحد برامجها وهو “الاستثمار في الشركات الناشئة بالمشاركة مع المستثمرين”. سعيًا لتعزيز هذا القطاع الحيوي، تم تأسيس الجمعية السعودية لرأس المال الجريء والملكية الخاصة لتعزيز دور القطاع في الاقتصاد السعودي المحلي وذلك بترسيخ أفضل المعايير المهنية في المجال إضافةً إلى وضع آليات تساهم في تطوير وتحسين الأنظمة والسياسات وتشجيع الشراكات وذلك لتحفيز مزيد من الاستثمارات.
منظومة ريادة الأعمال السعودية تدعم التقنيات الحديثة والناشئة. من الأمثلة في هذا السياق، قامت هيئة السوق المالية السعودية بمنح تصاريح تجريبية للتقنية المالية، وذلك لتقديم خدمة تمويل الملكية الجماعية. كما أطلقت مؤسسة النقد العربي السعودي (SAMA) بيئة تجريبية تنظيمية (Sandbox) لسوق الخدمات المالية المبتكرة، ومنحت عددًا من البنوك المشاريع الريادية في المجال تراخيص تجريبية لتقديم خدمات متنوعة في مجال المدفوعات الرقمية. تم كذلك إطلاق “فينتك” السعودية، التي تجمع بين أصحاب المصلحة الرئيسيين لتعزيز ثقافة الابتكار في القطاع المالي في المملكة العربية السعودية. تلعب شركة “تقنية” دورًا حيويًا في هذا الجانب، وهي شركة تابعة مملوكة لصندوق الإستثمارات العامة السعودية تهدف إلى خلق قيمة اقتصادية من التقنيات الحديثة. ومن بعض الأمثلة التابعة لشركة تقنية: شركة حاضنات ومسرعات الأعمال وشركة تطوير المنتجات البحثية، وهو مركز لتطوير التقنية وتسويقها.
الشمولية والتنوع يدعمان نمو منظومة ريادة الأعمال المحلية. من المهم أن تكون منظومة ريادة الأعمال المحلية منصة عالمية جاذبة تستقطب رواد الأعمال والمستثمرين من مناطق مختلفة من العالم، وللهيئة العامة للاستثمار دوراً أساسياً في ذلك. منذ عام 2017، بدأت الهيئة بمنح رواد الأعمال الدوليين رخصة ابتكار تمنحهم الفرصة لتوسع وممارسة أنشطة أعمالهم الريادية في المملكة العربية السعودية من خلال التعاون مع منصات معتمدة مثل الجامعات السعودية وحاضنات ومسرعات الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت الهيئة العامة للاستثمار مؤخرًا “SAGIA Venture” خلال مؤتمر القطاع المالي الذي عقد في الرياض في وقت سابق من هذا العام. تهدف المبادرة إلى جذب شركات رأس المال الجريء العالمية إلى المملكة العربية السعودية. في هذا الجانب، تم توقيع 20 اتفاقية مع صناديق استثمار جريء عالمية تعتزم الدخول للسوق السعودي للمساهمة في تنمية منظومة ريادة الأعمال المحلية.
تمثل المنظمات غير الحكومية والقطاع الثالث بشكل عام لبنة أساسية في منظومة ريادة الأعمال السعودية. من الأمثلة الرئيسية على ذلك منظمة إنديفر السعودية التي تدعم رواد الأعمال المحليين المؤثرين وتساهم في تسريع نمو منشآتهم الريادية، حيث استطاعت خلق آلاف من الفرص الوظيفية وزيادة إيراداتهم السنوية بمعدل 16٪.
قياس تحقيق النتائج والأثر
مع انتشار العديد من المبادرات الحيوية والداعمة لمنظومة ريادة الأعمال المحلية، تتبادر إلى الذهن بعض التوصيات الهامة. أولاً، ينبغي لأصحاب المصلحة الرئيسيين تحديد منهجية لقياس مخرجات المبادرات وأثرها على نمو منظومة ريادة الأعمال المحلية. ثانياً، لابد من وجود آلية مشتركة لقياس العوائد التي تولدها ريادة الأعمال محليًا مقابل ميزانيات المبادرة.
ومن أحد أدوات قياس تطور منظومة ريادة الأعمال هو مؤشر سياق ريادة الأعمال الوطني (NECI) الذي قام بتطويره تقرير المرصد الدولي لريادة الأعمال هذا العام. يعتمد المؤشر على 12 عامل ضمن إطار منظومة ريادة الأعمال منها: ديناميكية السوق المحلية، وتمويل المنشآت الريادية، والسياسات الحكومية، وتعليم ريادة الأعمال حيثيتم تقييم هذه العوامل من قبل خبراء محليين. وكذلك بالإمكان أيضًا تطوير مؤشرات أخرى بناءً على المؤشرات التي اقترحتها Kauffman Foundation، مثل كثافة الانشطة الريادية وفعالية التواصل بين فئات المجتمع الريادي والتنوع. يقيس كل من هذه المؤشرات فعالية منظومة ريادة الأعمال من خلال طرق محددة.
يمكن لمنظومة ريادة الأعمال المحلية أيضًا الاستفادة من مجموعة غنية من الدروس المستفادة لتسريع وتيرة نموها، وبالتالي تزداد فرص تحسين العوامل المتعددة التي من شأنها أن تساهم في زيادة فرص نجاح أصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة. ولابد الأخذ في الاعتبار أن المؤشرات والتصنيفات المنشورة لا تعكس في حد ذاتها بالضرورة واقع منظومة ريادة الأعمال المحلية، فينبغي لصناع القرار وأصحاب المصلحة الآخرين متابعة التطورات والأنشطة المختلفة لمنظومة ريادة الأعمال على أرض الواقع وذلك لتقييم والتأكد من نتائج مثل تلك المؤشرات بشكل عملي وواقعي.
تطوير منظومة ريادة الأعمال على مستوى المناطق المحلية:
اكتسبت الجهود المذكورة أعلاه الكثير من الاهتمام على المستوى الوطني، مما يدل على وجود أرض خصبة لشريحة متنوعة من أصحاب المصلحة في منظومة ريادة الأعمال المحلية. ومع ذلك، فإن المؤشر الحقيقي الذي يحدد مدى تطور منظومة ريادة الأعمال يكمن في مدى تطور المنظومة وفعاليتها على مستوى المناطق. بالتالي، ينبغي توسيع نطاق الجهود المبذولة على المستوى الوطني وصولاً إلى مناطق المملكة المختلفة من أجل الاستفادة من المزايا النسبية لها. من هذا المنطلق، تم تأسيس مبادرة منظومة الريادة السعودية، وهي عبارة عن مبادرة تكاملية تساهم في دفع عجلة نمو ريادة الأعمال المحلية في كافة مناطق المملكة من خلال ثلاثة محركات رئيسية، وهي: (1) تمكين التواصل والتفاعل بين الفئات المختلفة الممثلة لمنظومة ريادة الأعمال على مستوى المناطق، (2) إشراك المجتمع الريادي في المنطقة في توليد وتنفيذ المبادرات لتطوير منظومة ريادة الأعمال فيها، (3) تثقيف الفئات المختلفة في المنظومة الريادية في المنطقة عن التحديات و الفرض بهدف التحسين و التطوير. وقد تم إطلاق المبادرة في عام 2018 وبدأ تفعيلها في منطقتي المدينة وحائل.
في سبيل تعزيز تطوير منظومة ريادة الأعمال على مستوى المناطق، تم التنسيق مع جامعة MIT لتطبيق برنامج “تسريع نمو ريادة الأعمال المناطقية” بحيث يتم مشاركة مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية في البرنامج لتصميم وتنفيذ استراتيجيات محددة من شأنها تعزيز منظومة ريادة الأعمال في المناطق المشاركة، وتم مشاركة منطقتي مكة والمدينة في البرنامج مع التركيز على الميزة النسبية للحج والعمرة، وستبدأ مشاركة منطقة حائل في وقت لاحق من هذا العام.
“جادة الأحلام المحققة”
إطلاق ونمو المنشآت الريادة يتطلب وجود منظومة ريادة أعمال متكاملة تساعد تلك المنشآت من تحقيق أهدافها ومساهمتها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. أصبح من الواضح أن لرؤية السعودية 2030 دورًا كبيرًا في تشجيع وتحفيزها العديد من الجهات لإطلاق وتنفيذ مبادرات حيوية تدعم نمو هذا القطاع – الذي يعد مؤشر جيد يعكس التقدم لبيئة محفزة للمنشآت الريادية والمتوسطة والصغيرة. تحقيقاً للأهداف ذات العلاقة في رؤية السعودية 2030، أصبح تعزيز منظومة ريادة الأعمال أمرًا ضروريًا لتمكين التكامل بين الجهود المختلفة لأصحاب المصلحة لتحقيق الأثر الاقتصادي والاجتماعي المنشود. لذا، يجب على أصحاب التكامل والتعاون لتعزيز جهودهم في نمو منظومة ممكنة ومحفزة لتكون “جادة” تحقيق أحلام رواد ورائدات الأعمال.
السيرة الذاتية للمؤلف
أسامة عشري هو المؤسس والمشرف العام على مبادرة منظومة الريادة السعودية التي تهدف إلى دفع عجلة نمو ريادة الأعمال في مناطق المملكة العربية السعودية، وهو أيضًا عضو في مجلس إدارة شركة وادي مكة للاستثمار. كما تولى أدوار قيادية متعددة في بناء وتطوير منظومة ريادة الأعمال المحلية، وساهم في مؤلفات متعددة في المجال منها: تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال (مؤلف مشارك)، دور الجامعات في تحفيز منظومات ريادة الأعمال (مؤلف مشارك)، وتقرير عن منظومة ريادة الأعمال السعودية (مؤلف). حاصل على ماجستير إدارة أعمال من كلية بابسون. كما أكمل برنامج تسريع نمو ريادة الأعمال المناطقية بجامعة MIT وشارك في برامج تنفيذية ومهنية بجامعة هارفارد وجامعة ستانفورد.