تحظى عبارة “البيانات هي النفط الجديد” بجاذبية خاصة تعبر عن عصرنا الراهن. ومع ذلك، فقد كان هذا التعبير حاضراً لدينا منذ مدة، بغض النظر عن المعنى الكامن من ورائه، وتحديداً منذ العام 2006، حين استخدمه عالم الرياضيات البريطاني كلايف هامبلي، في دراسته حول ولاء العملاء لدى أكبر سلسة للسلع الاستهلاكية في المملكة المتحدة.
كان هامبلي يبحث عن طريقة بسيطة يشرح من خلالها أن البيانات – تماماً مثل النفط – يمكنها أن تشكل مصدراً قيماً للغاية حين يتم تنقيحها وصقلها من صورتها الخام. ومنذ ذلك الحين، تمت استعارة كلمات هامبلي بكثرة من قبل المعنيين بقطاع الأعمال والباحثين عن مزيد من الوقود لرحلتنا المتسارعة على امتداد الطريق السريع لعالم المعلومات.
وفي هذا العام، يبدو تصريح هامبلي ملائماً بصورة خاصة لمنطقة الخليج، مع انطلاق مركز البيانات السحابية الجديد التابع لشركة “أمازون ويب سرفيسز” من البحرين. ويعدّ هذا المرفق الجديد إنجازاً حيوياً مهماً، نظراً لكونه المركز الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وجاء تأسيسه في الوقت الذي تواصل فيه اقتصاداتنا رحلتها بعيداً عن الاعتماد التقليدي على الوقود الهيدروكربوني والقطاع العام، وتحولها بدلاً عن ذلك نحو احتضان القطاع الخاص واقتصاد المعرفة.
يعدّ انتشار الهواتف الذكية واحداً من أهم التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي مؤخراً، فهي قادرة على توليد، وتجميع البيانات حول مستخدميها مع كل نقرة وتمريرة إصبع. وتمكنت عبقرية الشركات العالمية العملاقة مثل “جوجل” و”أمازون” و”فيسبوك” في الولايات المتحدة الأمريكية، و”علي بابا” و”بايدو” و”وي تشات” في الصين، من تسخير تلك البيانات واستخدامها لتطوير منتجات جديدة، ولم يتوقف الأمر عند حد إعطاء العملاء ما يريدونه، بل تعدى ذلك إلى تقديم المنتجات لهم قبل أن يدركوا أنهم يريدونها.
وقياساً على العديد من المناطق حول العالم، ما تزال دول مجلس التعاون الخليجي بحاجة لإنشاء شركات تكنولوجية منافسة خاصة بها تتجاوز حدود السوق الإقليمية، إلا أن تأخر دول الخليج عن اللحاق بركب المرحلة الأولى من هذه الثورة الرقمية ليس سبباً للتقاعس والجلوس على الهامش، حيث أشار تقرير صدر مؤخراً عن شركة “ماغنيت”، المنصة الإقليمية المتخصصة في ريادة الأعمال، أن تمويل المشاريع الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قفز إلى 893 مليون دولار أمريكي في عام 2018، بزيادة ملحوظة بلغت نسبتها 31% عن العام 2017، وتم تخصيص جزء كبير من هذه الأموال للشركات التي تعمل على تسخير قوة البيانات، ومن أبرزها تطبيق “كريم” الذي اتخذ من دبي مقراً له (وجمع 200 مليون دولار)، ومنصة العقارات “بروبرتي فايندر” (جمعت 120 مليون دولار)، وموقع “أكيد” للمقارنة بين شركات التأمين (18 مليون دولار). وتعدّ المبادرات مثل مسرعة الاعمال القائمة على الحوسبة السحابية C5 Accelerate في البحرين، التي توفر دورة لمدة 8 أسابيع وتمويلاً تقدمه “أمازون ويب سرفيسز” بقيمة 50 ألف دولار مخصص لإقراض الشركات الراغبة بالتوسع، ضمانة لتغذية خط المواهب المستقبلي، وتدفق الأفكار المبتكرة بحرية وزخم كبيرين.
ومع ظهور وترسيخ التكنولوجيات الجديدة القادرة على تغيير نمط الحياة والاعمال، سيكون الدور الذي تلعبه البيانات أكثر وضوحاً مع تنامي قدرتنا على توليدها وتحليلها أضعافاً مضاعفة، وربما أسرع من ذلك أيضاً. وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يتجاوز حجم البيانات التي يتضمنها الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التعلم الآلي أي حجم آخر شهدناه من قبل، ويقدر أن سيارة ذاتية القيادة تعمل بكامل طاقتها ستولد 100 غيغابايت من البيانات في الثانية الواحدة. وتشهد قطاعات بأكملها عمليات إحلال شاملة وتغيير جذري. وعلى سبيل المثال، يعطينا دخول شركة “آبل” المبكر إلى قطاع الرعاية الصحية لمحة عن طريقة تسجيل البيانات الصحية باستخدام التكنولوجيا القابلة للارتداء، وغيرها من الأجهزة التي يمكن أن تسهم بإحداث تغيير جذري في أساليب التشخيص والعلاج وكل ما يتعلق بهما.
وبالطبع، سيتعين علينا معالجة هذا النمو المتسارع للبيانات وتسخيره للاستفادة منه، فمع الزيادة الهائلة لحجم البيانات، ستتزايد بكل تأكيد التحديات المرافقة لذلك في تخزينها وتسهيل الوصول إليها. وينبغي أن يكون التخزين آمناً وموثوقاً وسليماً، ويسهل الوصول إليه بسرعة، ومن هنا تأتي أهمية مركز بيانات “أمازون ويب سرفيسز”، والذي سيتم إطلاقه في البحرين، وسيحظى بأهمية استراتيجية في المنطقة بأكملها. وتمتلك “أمازون” بالفعل منشآت مماثلة في مناطق آخرى من العالم، ولذا فهي تدرك تماماً ما تحتاجه هذه المراكز كي تعمل بصورة مثالية. وبدورها، ستحظى الخبرات المحلية بأهمية حاسمة أيضاً، حيث يمنح التشريع الجديد الصادر في البحرين الدول الأجنبية الولاية القضائية على البيانات التي منشأها المؤسسات الخاضعة لسلطتها.
ومن ناحية أخرى، فإن وجود مركز بيانات شركة “أمازون ويب سرفيسز” في الشرق الأوسط يعني أن البيانات المخزنة هنا يمكن الوصول إليها بسرعة من داخل المنطقة. ويسهم القرب الجغرافي في تحسين فترة الاستجابة، والتي تعدّ حاسمة في كفاءة عمل أنظمة الحوسبة السحابية. وعلى نفس القدر من الأهمية أيضاً نتوقع أن يسهم مركز البيانات الجديد في المساعدة على تغذية منظومة العمل التكنولوجية المزدهرة بالفعل في مملكة البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي. وخلال أشهر معدودة، سجل حوالي 2,500 شخص في “برنامج أمازون ويب سرفيسز التعليمي”، وهو الأمر الذي يشير إلى أن استيعاب شباب المنطقة ومتبني التكنولوجيا فيها يأتي بصورة تتجاوز حماسة المهتمين من الشباب في الدول الأخرى مثل الصين والهند.
إن انسجام حماسة الشباب لدينا وتلازمها مع وجود بنية تحتية متطورة، ووجود تشريعات حديثة، تفتح عالماً جديداً من الفرص المثيرة والواعدة، وتدفع المنطقة نحو مستقبل حافل بالابتكار. ولذا، فقد نكون محقين تماماً في وصف البيانات بأنها هي النفط الجديد، وربما يتأكد قريباً بأن هذا التعبير كان أقل ما يمكن قوله للتعبير عن الإمكانات المتسارعة للبيانات وقدرتها على تحويل الاقتصادات حول العالم.
الكاتب: الدكتور يارمو كوتيلاين
كبير الاقتصاديين في مجلس التنمية الاقتصادية – البحرين