دبي – خاص
عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
تعتبر دولة الإمارات الأكثر اهتماماً بالمستقبل بين البلدان العربية، فقد سبق أن أسست أول مجلس للثورة الصناعية الرابعة، وأنشأت العام الماضي أول وزارة للذكاء الاصطناعي في العالم. السؤال هو: كيف سيؤثر هذا التوجه الطموح على ديموغرافية البلد؟
توقعت دراسة جديدة أصدرتها شركة الاستشارات العالمية ماكينزي، أن تدفع الأتمتة نحو 70 مليون عامل في الولايات المتحدة إلى البحث عن طريقة أخرى لكسب المال، خلال الفترة الممتدة حتى عام 2030. وهذا يعني أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي ستحل محل ما يقرب من ثلث القوى العاملة الأمريكية خلال تلك الفترة، ولذلك فعليها أن تبدأ بالتفكير في اكتساب مهارات جديدة والدخول في مجالات مختلفة في المستقبل القريب.
وتوقع تقرير آخر أصدرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز حديثاً أن تأخذ الروبوتات ثلث الوظائف البريطانية أيضاً بحلول عام 2030.
أما توماس فراي المدير التنفيذي لمعهد دافنشي وأحد أشهر المتحدثين عن المستقبل، فيتوقع أن تؤدي الأتمتة إلى اختفاء نحو ملياري وظيفة بحلول عام 2030، أي ما يعادل نصف قوة العمل العالمية المقدرة بنحو 4 مليارات عام 2030.
ليس ضرورياً أن يؤدي اختفاء العديد من الوظائف وتراجع عدد العاملين في البلدان المتقدمة، إلى انخفاض عدد السكان الإجمالي فيها، ولكنه سيدفع المخططين لليحث عن حلول لهذه المشكلة، كالدخل الأساسي الشامل (إيلون ماسك)، وفرض ضرائب على استخدام الروبوتات (بيل جيتس)، وكذلك محاولة خلق وظائف جديدة تحل ولو جزئياً مكان تلك التي ستختفي. ويحتدم النقاش أيضاً في البلدان المتقدمة حول ما إذا كان بالإمكان استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في رفع الإنتاجية دون الحد من فرص العمل، على الرغم من كونه موضوعاً إشكالياً.
تراجع عدد العاملين في دولة الإمارات هي مسألة مختلفة من حيث النتائج، لأن الأتمتة ستحل مكان قسم من العمالة الوافدة التي تشكل مع عائلاتها نحو 87 بالمئة من إجمالي السكان حالياً، وسيؤدي هذا إلى رحيلها من البلد وبالتالي إلى احتمال تراجع عدد السكان، ما لم يتم التخطيط منذ الآن لإيجاد وظائف بديلة قد تتطلب تغييراً في البنية القطاعية للاقتصاد الإمارتي.
سنلقي فيما يلي نظرة على بعض القطاعات الأكثر تأثراً بالثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات:
قطاع البناء
يتوقغ أن تقلص الحفارات الروبوتية والطابعات ثلاثية الأبعاد عدد عمال البناء إلى درجة كبيرة بحلول عام 2030. وبما أن عمال البناء يشكلون وفق إحصاءات وزارة الموارد البشرية والتوطين لعام 2016، ما نسبته 32.86 بالمئة من إجمالي القوة العاملة في دولة الإمارات، فمن المتوقع أن يؤدي استخدام هذه التقنيات الحديثة إلى تراجع كبير في عدد عمال البناء، خاصة وأن إمارة دبي، مثلاً، .تخطط لإنشاء 25 بالمئة من مبانيها باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد بحلول عام 2030، وفق تصريحات المسؤولين.
قطاع التجارة
يشكل عمال التجارة والصيانة في دولة الإمارات ما نسبته 23.15 بالمئة من إجمالي القوة العاملة (وفق إحصاءات وزارة الموارد البشرية والتوطين لعام 2016)، ويأتي هذا القطاع في المرتبة الثانية بعد قطاع البناء من حيث عدد العاملين. وتشير الدراسات إلى أن هذا القطاع سيتأثر بدرجة كبيرة بسبب ازدهار التسوق عبر الانترنت من جهة، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المتاجر التقليدية الكبيرة من جهة أخرى، ويتوقع أن يؤدي ذلك إلى تراجع ملموس في عدد العاملين في هذا القطاع بحلول عام 2030. ويشير تقرير حديث أصدرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز إلى أن عدد المتاجر التقليدية في بريطانيا سينحفض بشكل حاد وأن حوالي 2.25 مليون وظيفة فى تجارة التجزئة والجملة سوف تختفي بحلول عام 2030.
قطاع الصناعة
يشكل عمال الصناعة في دولة الإمارات ما نسبته 9.3 بالمئة من إجمالي القوة العاملة (وفق إحصاءات وزارة الموارد البشرية والتوطين لعام 2016)، ويأتي هذا القطاع في المرتبة الثالثة بعد قطاعي البناء والتجارة من حيث عدد العاملين.
لاشك أن الأعمال المتكررة ستكون أكثر تأثراً بالثورة الصناعية الرابعة، حيث ستسمح بأن تحل الآلات الذكية مكان العمال.
وكمثال على ذلك نذكر ماتقوم به حالياً شركة أديداس التي أوقفت مصانها في ألمانيا منذ أكثر من 20 عاماً، بعد أن نقلت انتاجها إلى الصين وإندونيسيا وفيتنام بسبب انخفاض الأجور في تلك البلدان، وباتت توظف نحو مليون شخص وتنتج نحو 300 مليون زوج من الأحذية الرياضية في العام. الأن بدأت العمل على بناء مصنع كبير لها في ألمانيا. المصنع الجديد سيدار عبر الروبوتات وباستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد. أنتجت الشركة نحو 5 آلاف زوج فقط لتجارة التجزئة عام 2017، بالاعتماد على هذه التقنيات الجديدة، لكنها تخطط لإنتاج أكثر من 100 ألف زوج عام 2018. تعمل الشركة أيضاً على افتتاح مصنع آخر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتخطط لمصانع أخرى في فرنسا وبريطانيا، وكلها بإدارة روبوتية وباستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد.
تقول الشركة أن طاقة المصنع الروبوتي الواحد تبلغ 500 ألف حذاء سنوياً ويحتاج إلى 160 عامل فقط. أي أنها تحتاج إلى 100 ألف عامل تقريباً لإنتاج 300 مليون حذاء في السنة بدلاً من المليون عامل الحالي، أي أنها ستوفر أجور 900 ألف عامل باستخدام هذه الطريقة. طبعاً الأمر يتطلب عدة سنوات لإنجازه.
استخدام التقنيات الحديثة في الصناعة سيلغي الحاجة إلى الكثير من اليد العاملة، لكن يمكنه أن يخلق فرصاً جديدة لجذب الشركات العالمية إلى دولة الإمارات، حيث لا تعود أجور اليد العاملة تلعب دوراً رئيسياً في اختيار مكان المصنع، بل قربها من المستهلك النهائي.
القطاع المالي
يتوقع الخبير المصرفي فيكرام بانديت الذي أدار مجموعة سيتي جروب خلال الأزمة المالية العالمية، أن تؤدي التطورات التقنية إلى اختفاء 30 بالمائة من الوظائف المصرفية فى السنوات الخمس القادمة، أي بحلول عام 2022.
فمثلاً، تمكن برنامج كوين (COIN) الذي طوره بنك جي بي مورجان (أكبر بنك أمريكي يضم 240 ألف موظف) من إنجاز أعمال كانت تتطلب 360 ألف ساعة عمل سنوياً، وذلك خلال ثوان قليلة. اسم البرنامج هو اختصار لكلمتي Contract Intelligence ومهمته القيام بتفسير وتدقيق عقود القروض التجارية التي كان يقوم بها عدد كبير من المحامين وموظفي القروض.
شهد القطاع المصرفي في دولة الإمارات خلال السنتين الأخيرتين تراجعاً في عدد الموظفين، وذلك بحسب البيانات التي أصدرها المصرف المركزي. ويعود السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى إجراءات تصحيح الأوضاع المالية في القطاع المصرفي وتقليص التكاليف، والتوسع في مجال الخدمات المصرفية الإلكترونية. ويتوقع أن يؤدي استخدام البرامج الذكية إلى مزيد من التراجع في عدد الموظفين خلال السنوات القادمة.
ولايقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على العاملين في القطاعات التي سبق ذكرها فقط، بل سيمتد ليشمل كافة القطاعات الأخرى. فشركة غارتنر للأبحاث تتوقع أن يقدم الذكاء الاصطناعي نحو 85بالمئة من خدمات العملاء بحلول عام2020 ، وأن تتطور برمجيات التحليل الآلي لوسائل الإعلام الإجتماعية، وإدارة علاقات العملاء، والحوار الروبوتي “تشات بوت”، ما سيقلل إلى حد كبير من الحاجة إلى القوة العاملة البشرية في هذا المجالات.
وما لم توضع خطط لتغيير هذا المسار، فسوف يوثر تبني الثورة الصناعية الرابعة من قبل دولة الإمارات إلى تراجع عدد العاملين في معظم القطاعات. فعلى سبيل المثال صرح المسؤولون في دبي أن 25 بالمئة من المركبات التي ستسير في شوارعها ستكون بلا سائق بحلول عام 2030، وأن 25 بالمئة من قوة الشرطة فيها ستصبح من الرجال الآليين بحلول عام 2030. وتوجد تصريحات عديدة أخرى حول استخدام الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء بكثافة بحلول عام 2030 في دولة الإمارات عموماً ودبي خصوصاً.
الخلاصة: من الأهمية بمكان إجراء دراسات معمقة حول تأثير تبني الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي على النمو السكاني وسوق العمل في دولة الإمارات، ومن المهم ربط ذلك بالمشاريع العمرانية الحالية والمستقبلية. إن البحث عن حلول لتفادي سلبيات التطور التقني السريع، هي عملية معقدة حتى في البلدان المتقدمة، ومن المفيد في هذا الصدد التذكير بقول ألبرت آينشتاين الشهير: “لايمكن إيجاد حلول للمسائل الكبيرة التي نواجهها، إذا بقينا أسرى لمستوى التفكير ذاته الذي كنا عنده عندما برزت تلك المسائل”.