دبي – خاص
عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
نحن في إحدى المدن المتقدمة عام 2037. الشوارع هادئة، لا حوادث تعرقل المرور، ولا انبعاث لثاني أكسيد الكربون يلوث الهواء، فالمركبات ذاتية القيادة التي تعمل بالطاقة الكهربائية تجوب شوارع هذه المدينة وتتولى عمليات النقل، وإشارات المرور الذكية تدير كافة التقاطعات وتعطي الأولوية لوسائل النقل الجماعية، ومواقف السيارات الظاهرة للعيان تقلص عددها بشكل كبير، فالسيارات ذاتية القيادة تتجه تلقائياً نحو مواقف السيارات المغطاة عندما لاتكون قيد العمل، والطاقة النظيفة تستخدم في كافة المنشآت السكنية والصناعية. المطاعم تعد وجباتها بشكل سريع ومفصل وفق احتياجات كل زبون وذلك باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، فيما تتولى البرامج الذكية والروبوتات خدمة الزبائن. الروبوتات تدير السوبرماركات الكبيرة، وما على الزبون سوى التقاط البضائع التي يريد والخروج بها من السوبرماركت، فالمستشعرات تتعرف على البضائع وأوزانها وأثمانها والكاميرات الذكية تتعرف على المشترين وتقتطع الأثمان من حساباتهم المصرفية عند المغادرة. عيادات الأطباء تقلص عددها بشكل ملموس لأن معظم الاستشارات الطبية تم استبدالها باختبارات كمبيوترية تجري عن بعد، لكن العناية الصحية زادت بشكل كبير ومتوسط العمر ارتفع إلى 100سنة بفضل التطور الطبي وانتشار اسليب العلاج المشخصن (personalized). عدد العاملين في مهنة المحاماة تقلص بشكل كبير، لأن برامج الذكاء الاصطناعي أصبحت تمتلك مهارات أفضل من البشر في تحليل القضايا وإجراء البحوث عنها، بل وأصبحت الأحكام التي يصدرها القضاة تحسب مددها من قبل الروبوتات. معظم الخدمات الحكومية أصبحت متوفرة إلكترونياً، والحاجة إلى إدارتها بشرياً تقلصت بنسبة 90 بالمئة مقارنة بعام 2017.
التكنولوجيا سيطرت على صناعة الدواء أيضاً، فبمجرد توافر المواد الأولية لدواء معين، تتولى الطابعات ثلاثية الأبعاد طباعته بسرعة خاطفة. طائرات صغيرة تدار إلكترونياً تجوب السماء لتوصيل وجبات الطعام والطرود الصغيرة إلى طالبيها، بعد أن أصبحت أماكن هبوطها تدخل ضمن تصميم المساكن ومنشآت الأعمال. أبنية لم يكن لها أثر قبل شهر، ظهرت فجأة للعيان بفضل استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد. صناعة الملابس والأحذية والأطراف الصناعية وقطع الغيار، بل وحتى السيارات، انتقلت إلى حضن الطابعات ثلاثية الأبعاد أيضاً. مليارات المستشعرات المتصلة بالإنترنت، انتشرت في كل مكان عبر السيارات، وأنظمة الأقمار الصناعية، والطائرات، والأجهزة القابلة للارتداء، والكاميرات، وأجهزة الموبايل، والأبنية الذكية، حيث تقوم جميعها بجمع المعلومات وإرسالها إلى مخدمات الإنترنت، ما يجعل مواطن هذه المدينة قادراً من الناحية التكنولوجية على معرفة أي شيء يريده، في أي وقت، وفي أي مكان طبعاً بقدر ما تسمح له القوانين. إعصار يتشكل ويتجه نحو المدينة، لكن لا خوف فمنذ عام 2030 أصبحت التكنولوجيا قادرة على تبديد الأعاصير. ومنذ عام 2030 أصبح أيضاً بالإمكان جمع المياه من الرطوبة الموجودة في الهواء. تستخدم المدينة تكنولوجيا الروبوتات والواقع الافتراضي والمعزز في التعليم على نطاق واسع، مقلصة عدد المعلمين إلى أقل من النصف تقريباً، وفي الواقع لم يعودوا معلمين بقدر ما هم مرشدين.
الصورة السابقة ليست خيالاً علمياً، بل هي توقعات عملية تبنتها مراكز الأبحاث وشركات التكنولوجيا العالمية والعلماء. فكل التكنولوجيات التي تناولناها سابقاً أصبحت متوفرة منذ الآن، وبدأ تجريبها والعمل على تحسينها، وتشكل بمجملها ما أطلق عليه الثورة الصناعية الرابعة، وسوف تؤدي إلى اختفاء عدد كبير من الأعمال.
ولكن، كيف تفكر بلدان العالم المتقدم في معالجة البطالة الكبيرة التي يتوقع أن تشهدها المرحلة الانتقالية المقبلة. يرى العديد من المخططين للمستقبل أن مبدأ الدخل الأساسي الشامل (UBI) هو الحل. وهذا المبدأ يعني أن كل فرد سيتلقى مبلغاً شهرياً كافياً لإعادة انتاج حياته بشكل مقبول، سواءً كان يعمل أو لايعمل (طبعاً بإمكانه أن يزيد دخله بعد ذلك إن توفرت له فرصة عمل). ويرى العديد من المفكرين أن تطبيق هذا المبدأ أمر لا مفر منه في المستقبل القريب، بسبب ثورة الأتمته التي ستودي إلى إلغاء نصف الأعمال القائمة حالياً بحلول عام 2030. هذه الفكرة يدعمها بقوة إيلون ماسك مؤسس شركة السيارات الذكية تسلا وشركة سبيس إكس ومديرهما التنفيذي، لكن بيل غيتس له رأي آخر فهو يقترح على الحكومات فرض ضريبة على كل روبوت يستولي على وظيفة من وظائف البشر. ومن ثم تستخدم هذه الضرائب لمعالجة المسائل الاجتماعية.
ماذا عن بلدان مجلس التعاون الخليجي، وكيف تستعد للثورة الصناعية الرابعة؟
أصدرت جميع بلدان مجلس التعاون الخليجي تقارير تتضمن رؤيتها لعام 2030. وعلى الرغم من أن هذه التقارير تناولت أهمية استخدام التكنولوجيا لتطوير الاقتصاد، إلا أن أي منها لم يتطرق بشكل عميق إلى تأثير التكنولوجيا الحديثة على كل قطاع من قطاعات الأعمال، ولم يتطرق أيضاً إلى التغييرات الديموغرافية التي ستحدثها هذه التكنولوجيا، ولا إلى التغييرات الجوهرية التي ستدخلها على سوق العمل.
فعلى سبيل المثال، يشكل عمال البناء نحو 25 بالمئة من العمالة الأجنبية في دولة الإمارات و40 بالمئة في قطر. ومن الضروري بيان تأثير استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد على هذه العمالة، مع العلم أن دبي، صرحت بأن 25 بالمئة من مبانيها سيتم إنشاؤها باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، وأن 25 بالمئة من السيارات في شوارعها ستسير بدون سائق بحلول عام 2030. الغريب أن عدداً من البيانات التي تنشر عن المستقبل تبنى على الماضي. فدولة الإمارات الأكثر اهتماماً بالمستقبل والتي أسست أول مجلس للثورة الصناعية الرابعة في العالم، لا توجد فيها توقعات دقيقة عن التغيرات الديموغرافية وسوق العمل في المستقبل، فالتصريحات الصادرة عن المسؤولين في دبي حول عدد السكان المتوقع للمدينة عام 2020، و2025 و2030، بنيت جميعها على النمو السكاني المسجل بين عامي 2011 و2015 والبالغ نحو 5.13 بالمئة سنوياً تقريباً، وكأن الثورة الصناعية الرابعة لن يكون لها تأثير على ديموغرافية هذه المدينة العربية الفريدة في حداثتها، وتطلعاتها المستقبلية.
سيكون للثورة الصناعية الرابعة تأثير كبير على المملكة العربية السعودية، إذ يتوقع أن تؤدي إلى إلغاء ملايين الوظائف خلال عقدين من الزمن. فعلى سبيل المثال، صرح العديد من المسؤولين السعوديين أن عدد السائقين الأجانب في المملكة يتجاوز المليون سائق، لكن لم تتطرق التقارير إلى تأثير استخدام المركبات ذاتية القيادة على عدد السائقين في المستقبل، وكم عدد الذين سيغادرون المملكة منهم، ومتى سيتم ذلك. أصبح من الضروري جداً أن تبادر الجهات المعنية في المملكة بالتخطيط لهذه الثورة ودراسة آثارها على كافة قطاعات العمل. وينطبق هذا الأمر على كافة بلدان مجلس التعاون الخليجي الأخرى، ويكفي أن نشير إلى أنه من المتوقع أن يبلغ عدد أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) المتصلة بالشبكة العالمية في بلدان مجلس التعاون الخليجي نحو 5 مليارات جهاز عام 2030، ما سيوفر قدراً كبيراً من التحكم الآلي، ويلغي عدداً كبيراً من الوظائف.
إن الحلول التي تبتكرها البلدان المتقدمة لمعالجة البطالة الناجمة عن الثورة الصناعية الرابعة، مثل الدخل الأساسي الشامل قد لاتكون مناسبة لبلدان مجلس التعاون الخليجي التي عليها أن تبتكر حلولها الخاصة. إن الأتمتة في بلدان مجلس التعاون الخليجي تعني إحلال الآلات مكان قسم متزايد من العمالة الوافدة، فالوظائف الجديدة التي ستظهر لن تعادل تلك التي ستختفي بحال من الأحوال، فهل يعني هذا نمواً ضعيفاً وربما تراجعاً في عدد السكان، وهل مشاريع البناء الحالية والمستقبلية تأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار؟