عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
الثورة الصناعية الرابعة تجتاح البلدان المتقدمة، وتطلق سلسلة من السلع والخدمات ومنظومات العمل الذكية في جميع القطاعات. هذه الثورة بدأت تتجه أيضاً نحو بلدان العالم الأخرى، ولكن بشكل انتقائي سواءً من حيث البلدان (الأغنى أولاً)، أو من حيث التقنيات الثورية الحديثة (الأكثر ربحية أولاً). البلدان العربية ليست بمنأى عن آثار الثورة الصناعية الرابعة، التي يتوقع أن تستهدف بلدان مجلس التعاون الخليجي أولاً، بوصفها الأغنى والأكثر استقراراً، بل إن بعض ملامح هذه الثورة بدأت فعلاً بالظهور في بعض هذه البلدان، كدولة الإمارات العربية المتحدة. لكن ماهي ملامح هذه الثورة؟
“الثورة الصناعية الرابعة” مصطلح أصبح متفق عليه عالمياً، ومعتمد من قبل مراكز الأبحاث الدولية، والمنتدى الاقتصادي العالمي الذي صنف الثورات الصناعية على النحو التالي:
الثورة الصناعية الأولى : بدأت عام 1784 باختراع الآلة البخارية التي أدت إلى ميكنة الإنتاج، ومن ثم النقل بواسطة الطاقة البخارية.
الثورة الصناعية الثانية : بدأت عام 1870 باستخدام الطاقة الكهربائية في الإنتاج والاتصالات والمواصلات، وأدت إلى إحداث تغير كبير في المجتمعات.
الثورة الصناعية الثالثة: بدأت عام 1969 مع انتشار الكمبيوتر وإرسال أول رسالة عن طريق الإنترنت، ودخول الكمبيوتر في الاتصالات والتصنيع والتعليم.
الثورة الصناعية الرابعة : وهي المرحلة التي بدأت حديثاً مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتعلم الذاتي للآلات، وربط الأشياء مع بعضها البعض عبر الإنترنت، والبيانات الكبيرة، و تقنية النانو، وتطبيقات الطباعة ثلاثية الأبعاد في الصناعة والإنتاج، والمركبات ذاتية القيادة، والتحكم في الجينات، والتقنيات الحيوية الأخرى.
تقدر الأمم المتحدة أن يصل عدد سكان الأرض عام 2030 إلى 8.5 مليار نسمة تقريباً. ويتوقع توماس فراي المدير التنفيذي لمعهد دافنشي وأحد أشهر المتحدثين عن المستقبل، أن يؤدي التقدم التكنولوجي (الأتمتة)، إلى اختفاء ملياري وظيفة بحلول ذلك العام، وهو رقم يقارب نصف عدد السكان ممن سيكونون في سن العمل آنذاك.
يشيرمعظم الخبراء إلى أن التغييرات التي ستشهدها البشرية خلال العشرين عاماً المقبلة، ستفوق ما شهدته البشرية منذ فجر التاريخ وحتى الآن. فالسيارات بدون سائق التي بدأ تجريبها حالياً، يتوقع لها أن تنتشر على نطاق واسع قبل عام 2030، مما سيسهم في إلغاء عشرات الملايين من الوظائف المرتبطة بهذا المجال.
ويتوقع أن تتغير كلياً الشبكة الحالية لتوصيل وجبات الطعام والطرود الصغيرة، حيث ستتم من خلال الطائرات الصغيرة التي تدار إلكترونياً.
أما الطباعة ثلاثية الأبعاد فهي ثورة حقيقية ستؤثر على العديد من القطاعات مثل الأدوية وصناعة الأطراف والطعام والملابس وصناعة السيارات. لكن أهم تأثير لها سيكون على قطاع البناء، لأنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء 90 بالمئة من العمالة المستخدمة حالياً في هذا القطاع.
ستشمل التأثيرات التقنية أيضاً التجارة الإلكترونية، وقطاع التجزئة، حيث ستلغي التطبيقات الذكية عدداً كبيراً من الوظائف في هذا المجال. أما في القطاع الحكومي فإن التوسع في الخدمات الإلكترونية، سيؤدي إلى إلغاء 80 بالمئة من الوظائف خلال السنوات المقبلة (يتوقع إلغاء 850 ألف وظيفة حكومية في بريطانيا خلال سنوات قليلة).
التغييرات لن تصيب فقط المهن اليدوية، بل ستشمل عدداً كبيراً من الأعمال الفكرية أيضاً. فالكمبيوتر العملاق واتسون الذي أنتجته شركة أي.بي.إم، تمكن من تقديم مشورات قانونية معقدة بدقة 90 بالمئة وفي غضون ثوان قليلة، مقارنة مع المشورات التي يقدمها القانوني المحترف والتي لا تتجاوز دقتها 70 بالمئة، ويحتاج إلى وقت أطول بكثير. من المتوقع أن يتقلص عدد العاملين في قطاع المحاماة مستقبلاً بنسبة 90 بالمئة. أما في مجال الطب، فقد أثبتت تجارب عديدة على الكمبيوتر واتسون أن دقته في تشخيص أمراض السرطان تفوق دقة الطبيب البشري بنحو أربع مرات. يستطيع الذكاء الاصطناعي اليوم أن يقرأ نتائج التحليلات المخبرية والصور الشعاعية، ويعطي تصورات أفضل من الطبيب بشأن الأمراض التي تشير إليها، لأن الكمبيوتر اليوم مرتبط بقواعد بيانات تتضمن عشرات الملايين من الحالات يستطيع البحث ضمنها ومقارنتها واستخلاص النتائج منها بسرعة فائقة، ولهذا يتوقع بعض العلماء أن تتقلص زيارات العيادات بنحو 80 بالمئة قبل عام 2030، بسبب سرعة تطور التشخيص الآلي عن بعد. وفي العام الماضي، أعلنت شركة مايكروسوفت عن افتتاح أول مختبر لها يهدف إلى إيجاد علاج لمرض السرطان عن طريق فك رموز الخلايا المريضة بحيث يمكن إعادة برمجتها، باستخدام برامج ذكية.
المحررون ليسوا بمنأى أيضاً عن البطالة، فقد تمكن الكمبيوتر واتسون من تحرير مجلة كاملة بمفرده. صحيح أن المجلة ليست أدبية، لكن التجارب في هذا المجال لاتزال مستمرة.
شركة فيسبوك تمتلك منذ الآن برمجيات تستطيع التعرف على الوجوه بدقة أعلى مما يستطيعه الإنسان. ويتوقع العديد من المفكرين أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري بحلول عام 2030 أو على الأكثر بحلول عام 2035.
كيف تستعد البلدان العربية لهذه الثورة الصناعية الجديدة؟
بحثت عن عبارة “الثورة الصناعية الرابعة” في جوجل، وجعلت البحث مقتصراً على آخر شهر فقط، وضمن النطاق العلوي الخاص بكل بلد عربي (مثل .ae للإمارات، و.sa للسعودية، إلخ). وبينت النتائج أن دولة الإمارات هي الأكثر اهتماماً بالثورة الصناعية الرابعة، إذ سجلت 98 نتيجةوبفارق كبير عن باقي البلدان العربية التي أبدت إهتماماً ضئيلاً بهذه الثورة. وقد جاءت هذه النتيجة منسجمة مع اهتمام دولة الإمارات بالمستقبل، والتي أسست أول مجلس للثورة الصناعية الرابعة في العالم، كما أن دبي هي الوحيدة في العالم العربي التي تخطط لإنشاء 25 بالمئة من مبانيها باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، وأن تعمل 25 بالمئة من السيارات في شوارعها بدون سائق بحلول عام 2030.
وعلى الرغم من أن العديد من البلدان العربية، أصدرت تقارير تتضمن رؤيتها لعام 2030، إلا أن أي من هذه التقارير لم يأخذ بالاعتبار الآثار الديموغرافية والاقتصادية التي ستحدثها الثورة الصناعية الرابعة، بل بنيت على تصور يبدو فيه المستقبل وكأنه امتداد بسيط للماضي والحاضر.
لم يعد ممكناً توقع المستقبل بمد الخطوط البيانية للماضي والحاضر، خاصة إذا كنا نمر بنقطة انعطاف تكنولوجية حادة. إن استشراف المستقبل في حالة الثورات الصناعية يبدأ بتحليل النتائج المتوقعة لهذه الثورات، وتأثيراتها المحتملة على كافة مناحي الحياة، وتواقيت حدوث هذه التأثيرات، ومن ثم تركيب خطوط بيانية جديدة تنطلق من خطوط الماضي والحاضر، لكنها تنحني بما يتلائم مع التأثيرات المستقبلية المتوقعة. وربما يتطلب الأمر رسم أكثر من سيناريو.
يمكن أن تخلق الثورة الصناعية الرابعة فرصاً جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية، إن تم التخطيط لها بدقة ومهارة، ولكن يمكنها أيضاً أن تؤدي إلى زيادة الفجوة التكنولوجية بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة، بل وربما تدفعنا للتلاشي ضمن ثقب التخلف الأسود.