خاص – entrepreneuralarabiya
عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
أدى اختراع الأبجدية من قبل الفينيقيين قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، إلى الاسهام بشكل رئيسي في حفظ وتراكم المعرفة على المستوى الإنساني، ثم أسهمت الحضارة العربية الإسلامية بشكل كبير في تقدم العلوم على المستوى العالمي، حيث استمرت موجات المعرفة بالانطلاق من المنطقة العربية باتجاه باقي بلدان العالم لمئات السنين، إلى أن بدأت بالركود لتسير بعد ذلك بالاتجاه المعاكس، فأصبحت موجات المعرفة تنطلق من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب، وباتجاه باقي أنحاء العالم.
لكن ما يميز القرن الواحد والعشرين، انكماش الفترة الممتدة ما بين انطلاق الموجة ووصولها إلى باقي بلدان العالم تدريجياً، وذلك بسبب التقدم الكبير الذي شهده قطاع الاتصالات.
اخترع الألماني جوهان جوتنبرغ آلة الطباعة عام 1436، ما خلق الأرضية اللازمة لنشر المعرفة على نطاق واسع. لكن هذه الصناعة لم تصل إلى البلدان العربية إلا عام 1702 حيث أنشئت مطبعة الدباس بمدينة حلب، وبحساب بسيط نجد أن هذه الموجة استغرقت أكثر من 265 عاماً للوصول إلى البلدان العربية.
وفي عام 1928 ظهرت في نيويورك أول محطة بث تلفزيوني في العالم، لكن الأمر استغرق نحو 26 عاماً قبل أن تظهر أول قناة تلفزيونية عربية باسم “تلفزيون بغداد” عام 1954.
وفي أواخر القرن الماضي، توفرت خدمة الإنترنت تجارياً في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1989، ولم يتطلب الأمر أكثر من 6 سنوات قبل أن يبدأ تقديم الخدمة تجارياً قي البلدان العربية، وفي مقدمتها دولة الإمارات عام 1995.
أما اليوم، فقد باتت بعض البلدان العربية تواكب التطورات التكنولوجية العالمية، فالطائرات بدون طيار، والسيارات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد للمنشآت والأعضاء البشرية، وإنترنت الأشياء، بدأ تجريبها في دبي في نفس الوقت الذي دخلت حيز التجربة في الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن الزمن الفاصل بين ظهور الموجة المعرفية التكنولوجية في البلدان المتقدمة وانتقالها إلى بعض البلدان العربية، بدأ بالتلاشي.
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بداية النهاية للقطبية المعرفية المتمثلة في أمريكا-أوروبا، مع بزوغ مراكز معرفية عديدة أخرى مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند. ومع ثورة الاتصالات التي يشهدها العالم، أصبح واضحاً أن القرن الواحد والعشرين بدأ يرسخ مفهوم عالم متعدد القطبية المعرفية، فهل تبرز إحدى البلدان العربية على خارطة القطبية المعرفية العالمية، وهل نشهد تدفقاً للمعرفة منها نحو أرجاء العالم الأخرى؟
تتبنى الحضارة الحديثة اليوم مقولتي: “المعرفة المستدامة”، و”التعلم عملية مستمرة مدى الحياة”، وهاتان المقولتان تضربان بجذورهما عميقاً في الحضارة العربية الإسلامية، فالمفكر العربي محمد بن عبد الجبار النفري قال قبل أكثر من ألف عام: ” العلمُ المستقر، جَهْلٌ مستقر”، والإمام أحمد بن حنبل قال قبل نحو 1200 عام: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”.
هذه المقولات كانت يوماً ما محركاً للمعرفة في العالم العربي الإسلامي، الذي شهد بداية عصر التنوير في القرن التاسع الميلادي. فازدهرت بغداد عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، وأصبحت واحدة من المراكز الرائدة في مجال التنوير على الصعيد العالمي. وأنتجت عدداً من العلماء والمفكرين الذين كانوا من أكثر العلماء شهرة على مر العصور، مثل الكندي والخوارزمي.
وقد شجعت القيادة الحكيمة في بغداد في ذلك الوقت على نقل وإنتاج المعرفة، وتعزيز الابتكار، فحصل العلماء والمبتكرون على مكافآت مالية سخية، وتمتعوا بمكانة رفيعة في المجتمع.
بدأ عصر المعرفة آنذاك بترجمة الأعمال العظيمة التي أنتجتها الحضارات القديمة، مثل اليونانية والفارسية والهندية. ويقال أن المترجمين تلقوا ذهباً يعادل وزن الكتب التي ترجموها. وتحول بيت الحكمة الشهير الذي بني في بغداد إلى مركز عالمي للدراسات والبحوث. ولأن الدورة التقليدية للابتكار تتمثل في أربع حلقات هي: نقل المعرفة – واستيعابها – ثم تحسينها – وصولاً إلى إنتاج معرفة جديدة؛ لم يقتصر دور العلماء على الترجمة فقط، بل مضى قدماً نحو حلقته الأخيرة المتمثلة في إنتاج معرفة جديدة، كتأسيس علم الجبر على يد الخوارزمي، وعلم التعميه (الشيفرة) واستخراج المعمّى (فك الشيفرة) على يد الكندي. وهكذا امتد عصر التنوير إلى ما بعد الخلافة العباسية، حيث برز العديد من العلماء منهم ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى.
اليوم تظهر ملامح نهضة جديدة في بعض البلدان العربية. فالمبادرات الطموحة التي يطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي، وآخرها مبادرة “استراتيجية الإمارات لاستشراف المستقبل” لاتهدف فقط إلى مواكبة البلدان المتقدمة، بل إلى استئناف الدور الذي لعبته بغداد في القرن التاسع الميلادي أيضاً.
فبعد سنوات طويلة من التخطيط والعمل الشاق، أصبحت دبي تملك البنية الأساسية للمدن الذكية. لكن المبادرات الطموحة التي يطلقها الشيخ محمد بن راشد تهدف إلى أكثر من ذلك، إذ أنها تتطلع إلى صناعة المستقبل من خلال مشروعات متنوعة، كمسرّعات دبي للمستقبل التي تشمل قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والنقل والمواصلات والأمن والسلامة والطاقة والتكنولوجيا والخدمات المالية. والهدف المعلن لهذه المبادرات ليس صناعة مستقبل دبي ودولة الإمارات فقط، بل الاسهام في “صناعة مستقبل العالم” من خلال احتضان دولة الإمارات لأفضل العقول في العالم.
نأمل أن تلتقط العقول الإماراتية والعربية، هذه المبادرة وتسهم في بناء قطب عربي يطلق موجة معرفية جديدة تنتشر في كافة أرجاء العالم.
هل تنجح هذه المبادرات الطموحة في وضع دبي ودولة الإمارات ضمن خارطة عالم متعدد الأقطاب المعرفية؟ أعتقد أن المستقبل لا يخذل من ينحاز إليه.