عبد القادر الكاملي
مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
يرى بعض المتخصصين العرب في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أننا عاجزون عن تطوير محرك بحث قادر على منافسة جوجل في فهم اللغة العربية وفهرسة الصفحات العربية، ومن ثم البحث بفاعلية عن النصوص التي تتضمنها هذه الصفحات على شبكة الإنترنت. ويستشهدون على ذلك بالنهاية المحزنة التي شهدها العدد القليل من محركات البحث التي طورتها عدة شركات عربية خلال السنوات الماضية.
هل وصل بنا العجز إلى درجة الانسحاب من إنشاء صناعات ترتبط مباشرة باللغة والثقافة والهوية العربية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نود أن نبين أهمية محرك البحث في عصر المعلومات.
ينقب محرك البحث عن كل ما ينشر على شبكة الإنترنت من نصوص وأصوات وصور وفيديو، ومن ثم يفهرسها ويؤرشفها، أي يحتفظ بنسخ منها ضمن مخدماته (سرفرز). ويحتفظ محرك البحث أيضاً، بكل رسائل البريد الإلكتروني المرسلة عبر بريده (مثال جي.ميل)، ويفهرسها ويؤرشفها ضمن مخدماته.
كما يحتفظ محرك البحث بكل كلمات وعبارات البحث التي يدخلها مستخدم الإنترنت ضمن مستطيل البحث الخاص بالمحرك، ومن ثم يفهرسها ويؤرشفها ضمن مخدماته.
تكمن أهمية محرك البحث في استخدامه برمجيات متقدمة جداً، لتحليل تركيب النصوص المنشورة على الإنترنت (اللغة)، ومحتوى هذه النصوص (العقل)، وما يتبادله الناس من معلومات (الأسرار)، ومفردات وجمل البحث التي يستخدمها الناس (الشخصية).
إن هذا الكم والكيف من المعلومات التي يجمعها محرك البحث تجعل منه مشروعاً استراتيجياً له أبعاد أمنية واقتصادية وعلمية وثقافية. وعدم التصدي له هو بمثابة الإقرار بالهزيمة حتى فيما يتعلق بتطوير تقنيات لغتنا العربية وفهم ذاتنا. لقد تمكنت جوجل خلال فترة قصيرة من تطوير برنامج للترجمة من العربية إلى الإنجليزية وبالعكس، باستخدام المنهجية الإحصائية التي تتطلب توفر كميات كبيرة من النصوص باللغتين، وتفوقت بذلك على الشركات العربية التي سبق وأنفقت ملايين الدولارات على برامج الترجمة الآلية. إن هذا ما كان ممكناً لو أن جوجل لم تفهرس وتؤرشف كمية كبيرة من الصفحات العربية والإنجليزية التي سبق وأن ترجمت يدوياً. وللأسف نقول: إن محركات البحث العالمية وخاصة جوجل، ستبقى في الموقع الأفضل لتحليل اللغة العربية والعقل العربي والشخصية العربية، ما لم نبادر إلى بناء محرك بحث عربي جديد وفعال.
توجد أسباب كثيرة تدعونا للاستثمار في تطوير محرك بحث عربي أصيل نذكر منها مايلي:
1- إن تجميع نتاج العقل العربي (الصفحات العربية)، والاهتمامات العربية (مفردات وجمل البحث) في قواعد بيانات قادرين على التحكم بها وتحليلها، يسمح بإجراء عدد كبير من الأبحاث سواءً على الصعيد اللغوي أو الإجتماعي أو العلمي، وخاصة أبحاث الذكاء الاصطناعي، ما يساهم في تطوير خبرات الشباب العربي وإتاحة الفرصة أمامهم لتسجيل براءات اختراع عديدة.
2- معظم محركات البحث تم بناؤها انطلاقاً من احتياجات لغات أخرى. في حين أن للغة العربية خصائص تتطلب بناء فهارس تناسبها منذ البداية، وسوف يحسّن هذا نتائج البحث بشكل كبير.
3- توفر بعض محركات البحث العالمية والعربية دعماً للغة العربية، لكن هذا الدعم غير كافٍ. لقد أحصينا خمسة مجالات مهمة لدعم اللغة العربية، لم تعالجها محركات البحث العالمية الرئيسية، على الرغم من أنها تؤدي إلى تحسين ملموس في نتائج البحث. ترتبط المجالات الخمسة التي أشرنا إليها بالبحث التقليدي فقط، أي البحث المرتكز على الكلمات والجمل، أما أنواع البحث المتطورة، كالبحث الدلالي، فلا يوجد أي دعم لها حالياً، وهي تتطلب بحوثاً معمقة وطويلة الأمد.
4- إن محركات البحث الجيدة ليست محطات إنطلاق فقط، بل هي وجهات للزيارة أيضاً، لذلك باتت تلك المحركات تقدم عدداً كبيراً من الخدمات. لقد وضعنا قائمة تضم عشرات الخدمات المرتبطة باللغة العربية والبلدان العربية والحضارة العربية الإسلامية، التي لم يتطرق إليها أي محرك بحث حتى الآن. إن بناء مثل هذه الخدمات سوف يجذب ملايين المستخدمين يومياً إلى محرك البحث الجديد.
أما على المستوى الاقتصادي فإن محركات البحث العالمية تجني عائدات كبيرة من المعلنين العرب والأجانب المقيمين أو المهتمين بالمنطقة، وتنمو هذه العائدات بسرعة كبيرة مع زيادة التوجه نحو الإعلان عبر الإنترنت. ويتوقع أن تتمكن محركات البحث العالمية من كسب أكثر من مليار دولار سنوياً من البلدان العربية في غضون سنوات قليلة إذا لم نبادر بتطوير محرك بحث عربي جديد يشارك في جني قسط من هذه العائدات.
من الواضح أننا لا ندعو هنا إلى تطوير محرك بحث ينافس جوجل في لغات العالم أجمع، بل ندعو إلى تطوير محرك بحث عربي أصيل يتكامل مع جوجل ويغطي نواقصه في مجال الفهرسة والبحث والخدمات الخاصة باللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية.
لقد أثبتت التجارب أن الشعوب التي لديها إرادة بإمكانها بناء محرك بحث بلغتها يتفوق على أداء محركات البحث العالمية في تلك اللغةـ والأمثلة على ذلك كثيرة من الصين وروسيا وكوريا الجنوبية، بل إن بلداً صغيراً مثل جمهورية التشيك لا يزيد عدد سكانه على 10 ملايين نسمة، يجني محرك البحث الخاص به عائدات سنوية تقارب 100 مليون دولار.
نعود الآن إلى سؤالنا الرئيسي: هل نحن عاجزون عن تطوير محرك بحث عربي أصيل؟
بالتأكيد لا، إن فشل محركات البحث القليلة التي طورتها شركات عربية يعود بشكل أساسي إلى أن ميزانيات التطوير التي رصدت لها كانت صغيرة جداً، وإلى عدم إنشاء مراكز أبحاث متخصصة لتطوير هذه المحركات، والاكتفاء بنسخ البرمجيات المتوفرة في الاسواق العالمية دونما تكييفها لاحتياجات اللغة والثقافة العربية، وعدم إشراك الجهات الأكاديمية في هذا المشروع.
إن ما نحتاجه لإنجاح هذا المشروع، هو إرادة سياسية وتمويل جيد وعقول متخصصة وقادرة على الابتكار، ومشاركة من جهات عديدة وخاصة من قبل المؤسسات الأكاديمية. وأعتقد أن كل هذا ممكن توفيره.
إن مشروع إنشاء محرك بحث عربي جديد على شبكة الإنترنت هو ضرورة حضارية وذو جدوى اقتصادية في الوقت ذاته، بالإضافة إلى كونه استثماراً استراتيجياً لا غنى عنه إذا أردنا النهوض ببلداننا في عصر المعرفة، وخاصة أن البحث عبر الإنترنت هو علم لا يزال في مرحلة الطفولة الأولى وسيبقى مجالاً خصباً للأبحاث المرتبطة بالفهم الآلي للغة العربية لمئات السنين المقبلة، وهذا ما يؤكده الخبراء في هذا المجال، إذ وصفت نائبة رئيس شركة جوجل السابقة، البحث بأنه “علم جديد يشهد اختراقات كبيرة ومثيرة باستمرار”، وشبهت المرحلة التي يمر بها علم البحث اليوم بالمرحلة التي مرت بها علوم الأحياء والفيزياء في القرنين الخامس والسادس عشر، وقالت “ربما تمر مئات السنين أو أكثر قبل أن نتمكن من اختراع المجهر الخاص بعلم البحث واكتشاف جزيئات وذرات مادة البحث”، وتضيف “إن التقدم الكبير في هذا العلم لم يأت بعد”.