وجود المشكلات في الأسواق هو فرصة ملائمة للعمل، وبشكل أكثر دقة هو الفرصة المناسبة للابتكار. ما أكبر مشكلة السكن في المملكة العربية السعودية، وما أبعد ما يطرح من حلول لها عن الابتكار.
كتبت فوزية ياسمينة
الحلول التي يدعو لها الغالبية ممن يراقبون، ويحللون ويحملون هم المواطن السعودي تتفاوت بين مطالبات بفرض رسوم على هذه الأراضي وإجراء تعديلات قانونية معينة تحد من المشكلة وغيرها الكثير، ومنها ما ينحصر بالتحفيز على استثمار هذه الأراضي والتوعية وغيرها.
إذا نظرت من نافذة الطائرة وأنت محلقاً فوق شبه الجزيرة العربية، تشعر أن الأرض كلها هي المملكة العربية السعودية وتحيطها أراضٍ صغيرة متناثرة على أطرافها تشكل باقي دول مجلس التعاون واليمن ودول بلاد الشام. أكثر من 2 مليون كيلومتر مربع هي مساحتها. المملكة التي تعد الأغنى من حيث الموارد وخاصةً النفط، يعاني ما يقارب 75 % من سكانها من مشكلة السكن. والعقدة تكمن أن سبب المعاناة هذه عائد إلى ارتفاع أسعار الأراضي وما يزيد الأمر غرابة أن حوالي 17 مليون هكتار من أراضي المملكة هي أراضٍ بيضاء.
ما هي الأراضي البيضاء التي تسبب هذه المشكلة؟ إنها الأراضي المملوكة من قبل أفراد سواءً كانت مخططة ضمن المناطق العمرانية أو لم تكن والتي لم يقم أصحابها باستثمارها. بالتالي فإن ارتفاع نسبة الأراضي البيضاء في السعودية قلل من حجم المعروض من الأراضي للاستثمار ما رفع بدوره سعر الأراضي إلى أرقام قياسية تنافس بأسعارها أراضٍ في لندن التي لطالما اعتبرت الأغلى على مستوى العالم.
ينفق المواطن السعودي ما يقارب 60 % من دخله على السكن. حيث يسكن الغالبية في مساكن مستأجرة، كيف لا وسعر الأرض في حين يجب أن لا يتجاوز25 % من سعر البناء عليه عموماً ليكون معقولا، إلا أنه في السعودية يصل إلى 45 % إلى 77 % من إجمالي تكلفة البناء. وبالرغم مما طرح من مشاريع سكنية وصلت إلى 50 ألف وحدة سكنية إلا أنها غير كافية، إن كانت هذه الوحدات كافية اليوم لتلبية الطلب وقد تغطي الطلب للعام القادم لكنها بالتأكيد لن تغطيه لأعوام الثلاثة القادمة. المشكلة أن وزارة الإسكان لم تنجز مشروعاً سكنياً واحداً خلال 3 سنوات!
يجادل البعض بأن هذه الأراضي ليست مملوكة لمجرد رفع الأسعار. قد يكون ذلك صحيحاً فالعرب عموماً مولعون باقتناء الأراضي، دون هدف. لكن الحقيقة هذه لا تغير من كارثية النتيجة.
الحلول التي يدعو لها الغالبية ممن يراقبون، ويحللون ويحملون هم المواطن السعودي تتفاوت بين مطالبات بفرض رسوم على هذه الأراضي وإجراء تعديلات قانونية معينة تحد من المشكلة وغيرها الكثير، ومنها ما ينحصر بالتحفيز على استثمار هذه الأراضي والتوعية وغيرها.
بالنهاية الحلول المطروحة جميعها لا تتعدى أن تكون مطالبات بحلول. الأمر ليس غريباً علينا كعرب عموماً: في مواجهة المشكلات أفضل ما يمكن أن نفعله هو أن نطالب بحلول لهذه المشكلات. أما الابتكار فهو أمر لا يخطر لنا على بال.
بالنسبة لكل من يملك حس الريادة عليه أن يرى في هذه المعضلة فرصةً كبيرة. فعندما لا تجدي الحلول التقليدية نفعاً في معالجة المشكلات يكون الدواء في الابتكار، وهذا بطبيعة الحال من اختصاص الرواد في المجتمع.
ببساطة الأراضي المطروحة اليوم للاستثمار قليلة وهي مرتفعة الثمن، قد يكون الحل الأنسب هي في تقليل مساحة الأرض المطلوبة للبناء. ربما الأمر ليس شديد الإغراء بالنسبة للثقافة العربية التي تهوى المساحات الكبيرة في المسكن. ولكنه حل لا بأس به إذا ما أدخل عليه تصاميم نوعية مبتكرة وجذابة. وعلى كل حال هو حل أفضل من “اللاحل” الذي تعانيه كتلة كبيرة جداً من المجتمع.
الدول المتقدمة سواء في أوروبا أو اليابان كانت لها تجارب يمكن دراستها. ليس من الضرورة “قص ولصق” التجربة على مجتمعاتنا ولكن يمكن الاطلاع عليها من باب الدراسة والإلهام للخروج بتجربة أكثر ملائمة لطبيعتنا وثقافتنا. وفي ما يلي بعض تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.
السكن فن
اليابان سباقة في الكثير، وهي في مسألة حل مشكلة السكن سباقة أيضاً. اليابان التي يحق لها أن تعاني من مشكلة سكن، فالدولة المتقدمة والمتطورة التي لا تزيد مساحتها عن مساحة ولاية كاليفورنيا، يعيش فيها 125 مليون نسمة. إلا أنها سارعت إلى ابتكار حل سريع للمشكلة، بدايةً بناطحات السحاب، وثم بالسكن الصغير.
من ناحية الجودة ولأن مساحات المساكن بين 500 و800 قدم مربع، فإن مقياس جودة السكن تكمن في مسألة استغلال المساحات بالشكل الأنسب والأكثر عملية.
إن فكرة بناء منازل صغيرة كانت حاضرة دوما في اليابان نظرا لارتفاع أسعار الأراضي وندرتها. كما أن الأشخاص الراغبين في العيش داخل المدن يتحتم عليهم التأقلم مع العيش داخل منازل صغيرة.
الملاحظ أن اليابان أبدت دوما ولعها بالأشياء الصغيرة، سواء كانت النباتات الصغيرة المعروفة باسم «بونساي»، أو الموضة الحالية المتمثلة في السيارات شديدة الضآلة ذات المحركات الصغيرة، أو المنازل بالغة الضآلة التي يعادل حجم أرضيتها حجم مرأب سيارات. ومن أجل تلبية الطلب على المنازل الصغيرة، يعمد المهندسون المعماريون اليابانيون إلى تصميم منازل بالغة الصغر بمواقع لا تتجاوز في مساحاتها المساحات المخصصة لانتظار السيارات في الدول الغربية. تعرف هذه المنازل في اليابانية باسم “كيو شو جوتاكو”، وتقام عادة على مساحات لا تتجاوز 30 مترا مربعا. كما تضحي بعض هذه المنازل بجزء من المساحة لإقامة مرأب للسيارة. وبات العيش داخل منازل صغيرة أمرا معتادا، خاصة بالنسبة للأجيال الأصغر سنا من اليابانيين ممن يتسمون بدخول متواضعة ولم تعد لديهم رغبة في خوض رحلة قاسية يوميا عبر القطارات المزدحمة من الضواحي النائية الواقعة خارج طوكيو، مثلما كان يفعل آباؤهم.
للحصول على فكرة عن نظام التسعير، تنبغي الإشارة إلى أنه في المتوسط يسعى أي زوجين عاديين في طوكيو لشراء شقة بمساحة 70 مترا مربعا، بتكلفة تبلغ 45.000.000 ين أو أكثر (ما يتجاوز 456.000 دولارا). وبالنظر إلى هذا الأسعار، فإنه من غير المثير للدهشة انتشار ظاهرة المنازل بالغة الضآلة في مدن مثل طوكيو وكوبي.
عادةً، تعيش الأسرة اليابانية العادية في طوكيو في شقة ثمنها 300.000 دولار تعادل في مساحتها غرفة واحدة من شقة في الولايات المتحدة. وتضم مثل هذه الشقة اليابانية غرفة معيشة ومطبخا يستخدم أيضا كغرفة لتناول الطعام، بجانب غرفتي نوم وحمام منفصل.
على مستوى اليابان، يوجد 2.2 مليون وحدة سكنية عامة. وتملك الكثير من الشركات مباني تضم غرفا للنوم أو شقة مؤلفة من غرفة نوم واحدة أو شققا صغيرة للأسر يمكن للموظفين العيش بها من دون تحمل تكاليف كبيرة.
الملاحظ أن الإسكان الياباني التقليدي لا يفرض استخداما معينا لكل غرفة، بخلاف منطقة مدخل الشقة والمطبخ والحمام، حيث يمكن استغلال أي غرفة كغرفة معيشة أو تناول الطعام أو غرفة مكتب أو نوم. وما يجعل هذا الأمر ممكنا أن جميع قطع الأثاث الضرورية يمكن حملها ونقلها بسهولة. ويتضمن تصميم المنازل اليابانية أبوابا منزلقة، مع مراعاة توفير مساحات للتخزين بمختلف أرجاء المنزل. وبمقدور مالك المنزل فتح الأبواب جميعا ليحصل على غرفة واحدة واسعة أو إغلاق الأبواب لغلق أجزاء من المنزل.
وعادة ما تتضمن الشقق الصغيرة غرفة حمام واحدة صغيرة تتضمن ثلاثة عناصر رئيسة. تتسم غرفة الحمام بأنها مقاومة للمياه وتضم حوضا للاستحمام وماسحة للاغتسال بجانب (وليس داخل) الحوض. وبالتالي، لا يتسخ الماء الموجود بالحوض ولا يختلط بالصابون، مما يجعل من الممكن إعادة استغلاله. وبالفعل، تتضمن الكثير من أجهزة الغسل في اليابان مواسير لشفط المياه من الحوض لاستخدامها في الغسل.
عام 2005، طرحت شركة ياماها في الأسواق هيكلا عازلا للصوت على شكل سقيفة بمساحة 27 قدما مربعة، يحمل اسم “غرفتي”، يمكن وضعه داخل المنازل لتوفير بعض من الخصوصية على أصحابه ممن يقطنون منازل مزدحمة.
تعد غالبية المنازل بالغة الضآلة في اليابان سابقة التجهيز، وتدعى «منزل باكو»، وكذلك المنازل الحاوية. من الخارج، يبدو منزل باكو في صورة مكعب صغير لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة. ويتميز المنزل المعاصر سابق التجهيز بواجهة بيضاء صغيرة خالية من تفاصيل، ويرمي تصميمه إلى ترك أدنى تأثير ممكن فعليا وبيئيا على البيئة المحيطة. ونظرا لأبعاده الصغيرة، لا يستلزم منزل باكو بيئة تحتية. ويعتمد هذا المنزل صديق البيئة والقائم بنفسه على مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وإعادة تدوير المياه. أما السطح المتحرك للمنزل فيتمثل في اسطوانات هيدروليكية، تسمح بالنوم تحت السطح أو النجوم من دون الاضطرار لترك منزل باكو. وتعتمد الإنارة داخل المنزل على المصابيح الثنائية الباعثة للضوء. وعندما تنطفئ الأنوار، تغمر الأنوار الطبيعية المنزل عبر كوة في السقف مؤلفة من لوحين من الزجاج يحبسان الهواء بينهما لمنع حدوث تكاثف. يتألف الجزء الخاص بالنوم من أرجوحة شبكية ولا تخصيص لأي مساحة على الأرضية له، مما يزيد من المساحة المتوافرة داخل المنزل. وتصنع الأرجوحة الشبكية من شبكة استريوسكوبية ثلاثية الأبعاد تحافظ على مرونتها وتتكيف مع حجم وشكل الجسم. يوجد الدش داخل منزل باكو داخل جزء من المنزل يمكن نقله ومقاوم للمياه، مع وجود جدران تفصل بين رشات المياه وباقي أرجاء المنزل. ويضم الجزء الخاص بالدش أيضا المرحاض. المثير أن هذا المرحاض المبتكر موجود تحت الأرضية. وعليه، فإنه عندما لا يجري استخدامه، يمكن إخفاؤه واستغلال المساحة لأغراض أخرى. وعندما يحين وقت تناول الطعام، يمكن رفع المائدة باستخدام مقبض بسيط بحيث يدار لزاوية 90 درجة. ويمكن القول إن استغلال المساحات تحت الأرضية يجعل من هذا المنزل عملا تصميميا رائع. وعلاوة على إخفاء المرحاض وطاولة المطبخ، تخفي الأرضية أيضا مساحة إضافية للنوم ومنطقة للتخزين.
يتوافر منزل باكو في أربع صور أساسية. تتضمن الصورة الأولى المطبخ والدش وستائر للدش وحماما وأرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف وذلك بسعر يبلغ 6.300.000 ين. وتضم الصورة الثانية مطبخا وأرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف بسعر 5.250.000 ين. أما الصورة الثالثة فتشمل أرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف مقابل 4.725.000 ين. وأخيرا، تضم الصورة الرابعة الهيكل الرئيسي الذي يمكن تعديله لما يتوافق مع احتياجات المرء ومتطلباته، ويصل سعره إلى 4.200.000 ين. ويتمثل تجسيد آخر لفكرة العيش داخل المنازل الصغيرة داخل اليابان في فنادق الكبسولة. ويتميز الفندق الكبسولة بنمط فريد من حيث السكن يستقي إلهامه من السعي لترشيد استهلاك المساحات بأقصى درجة ممكنة، مع توفير المستوى الأكبر من الراحة، الأمر الذي يعكس الطابع الإبداعي للعقل الياباني.
ترجع جذور الفندق الكبسولة إلى سبعينات القرن الماضي، عندما تفتق ذهن كيشو كوراكاوا عن فكرة تحويل حاويات الشحن غير المستغلة إلى نمط من أنماط السكن والإقامة. وبالفعل، جرى تعديل الحاويات على نحو طفيف. وبحلول مطلع الثمانينات، ظهرت في اليابان عدة فنادق من هذا الطراز، كان أولها في طوكيو في ضاحية أكاسوكا. وسرعان ما حققت هذه الفنادق نجاحا كبيرا، حيث خدمت احتياجات جيش متنام من رجال الأعمال الذين أصابهم الكل والتعب من كثرة السفر بين مكان العمل ومنازلهم، وهو أمر شائع داخل اليابان.
في البداية، كانت هذه الفنادق شائعة بين رجال الأعمال، ثم سرعان ما بدأت تجتذب أفرادا من مختلف أرجاء البلاد نظرا لانخفاض أسعارها نسبيا، حيث بلغت تكلفة المبيت لليلة الواحدة ما بين 30 و35 دولار. في المقابل، يمكن أن تصل تكلفة المبيت في «إمبريال هوتيل أوساكا» إلى آلاف الدولارات لليلة الواحدة.
تجارب
تجربة اليابان ليست وحيدة في هذا السياق، فالولايات المتحدة في الكثير من ولاياتها تعاني من المشكلة ذاتها ، ولجأت إلى حلول ليست بعيدة عن حلول اليابان ولكنها متلائمة مع البيئة الأمريكية ومع معطيات مشكلات السكن فيها. وهناك التجارب الأوروبية المتعددة وخصوصاً في العواصم كباريس ولندن.
ولكن مجدداً، تجربة اليابان أو أوروبا أو أمريكا أو غيرها ليست للقص واللصق، وإنما هي مسألة يمكن النظر فيها ودراستها ومن وحيها الخروج بحل متلائم مع طبيعة ومعطيات مشكلة السكن في السعودية مع الأخذ بالاعتبار الطابع الثقافي ولكن ليس الانجراف ورائه.
في اليابان أو أمريكا أو أوروبا، لم تكن دائما البيوت الصغيرة محببة للناس، ولكنها أصبحت توجهاً شائعاً يلتف على معطيات فرضت نفسها في سوق السكن.
ربما مشكلة السكن سوف تحل يوماً في المملكة فالمسألة ليست إعجازاً ولكنها فقط تتطلب جهداً أكبراً إصلاحاً أكثر وسرعة تنفيذية. ومن الأن إلى ذلك اليوم هناك من ينتظر ويرغب في امتلاك بيت وفي المقابل هناك حلولاً مبتكرة يمكن استثمارها، وعلى المجتمع التعديل قليلاً من توقعاته في السكن الذي يرغب في امتلاكه.